نجم الهاشم

انتفاضة 15 كانون الثاني 2025

بعد توقيع «الاتفاق الثلاثي» في دمشق في 28 كانون الأول 1985 استقبل رئيس أركان «القوات اللبنانية» سمير جعجع في المجلس الحربي في الكرنتينا مسؤولاً أميركياً يحمل صفة دبلوماسية. كان الحديث يدور حول مسألة معارضة الاتفاق ومحاولة النظام السوري السيطرة على لبنان من خلاله. كانت نصيحة المسؤول الأميركي لجعجع واضحة بعدم المعارضة وبالسير بموجب ما تقتضيه المرحلة. ولكن بعد أيام كان جعجع ينجح في إسقاط هذا الاتفاق في 15 كانون الثاني 1986. 15 كانون الثاني 2025 يبدو كأنه انتفاضة مماثلة لتثبيت منطق الدولة والسيادة ولإسقاط سيطرة «حزب الله» على القرار اللبناني بعد سقوط النظام السوري.


قام «الاتفاق الثلاثي» على ثلاث ركائز: رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات» إيلي حبيقة، ورئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، ورئيس «حركة أمل» نبيه بري. بحكم الأمر الواقع كان جنبلاط وبري من حلفاء النظام السوري. التحول كان في موقف حبيقة الذي حاول أخذ «القوات» في مسار يعاكس حركة تاريخها ونضالها والوجدان المسيحي وفكرة قيام لبنان الكبير الحر والمتحرر من الحكم العثماني ومن بعده التحكم السوري. وكان من البديهي أن يفشل في هذا الخيار سياسياً قبل أن يسقط عسكرياً. لم يكن من السهل عليه تمرير هذا التنازل أمام النظام السوري، ولذلك كان من السهل على جعجع أن يسلك الخيار المعاكس الذي أسقط هذا الاتفاق وأن يعيد الشارع المسيحي إلى أساس فكرة لبنان الحرّ.



 صورة «القوات» وصورة «حزب الله»

بعد 39 عاماً على انتفاضة 15 كانون الثاني 1986 تأتي انتفاضة 15 كانون الثاني 2025. دعامتان من دعائم الاتفاق الثلاثي تحوّلتا إلى خصومة كبيرة ومعاداة مع النظام السوري. «القوات اللبنانية» منذ ما بعد إسقاط هذا الاتفاق بقيت على خط النار مع هذا النظام. ووليد جنبلاط خاض معارك ضده عام 1987 في بيروت، ولكنه لم يتحوّل إلى العداء معه إلا في مرحلة تكوين المعارضة التي انطلقت على أثر نداء المطارنة الموارنة من بكركي في 20 أيلول 2000، وتوسّعت مع «لقاء البريستول» قبل أن يتمّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتولد انتفاضة 14 آذار. أما الركيزة الثالثة التي مثّلها رئيس «حركة أمل» نبيه بري فاستمرّت في تأييد هذا النظام ولم تنقلب عليه، وإن كان «حزب الله» الذي سيطر على قرار الشيعة في لبنان، تولى مهمة الدفاع عن هذا النظام حتى الموت. ولكن في 8 كانون الأول انتهى هذا النظام نفسه. ويكاد ينتهي معه نفوذ «حزب الله».


بعد 15 كانون الثاني 1986 وتولّي الدكتور سمير جعجع قيادة «القوات اللبنانية»، تحوّلت «القوات» إلى قوة رئيسية في المناطق الشرقية وبنت معظم سفارات وأجهزة مخابرات الدول العربية والعالمية علاقات معها تناولت الكثير من الملفات. خصوصاً أن هذه المرحلة شهدت صعود «حزب الله» وعمليات خطف الأجانب والتفجيرات والاغتيالات وحروب الشوارع في بيروت الغربية والفلتان الأمني، الأمر الذي أدّى إلى انتقال معظم السفارات إلى بيروت الشرقية وتنامي قدرة «القوات اللبنانية» على أن تتحوّل قوة مناهضة ضد استمرار محاولات النظام السوري السيطرة على لبنان. منذ ذلك التاريخ كانت «القوات» تبني صورة مناقضة لصورة «حزب الله». صورة لما يجب أن يكون عليه لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة، بينما كان «الحزب» يريد تحويل لبنان إلى ساحة صراع في خدمة إيديولوجيته الدينية التي تنطلق من مركز القرار وولاية الفقيه في طهران وتصل إلى كل ساحة يمكن أن تسيطر عليها في تجاوز واضح لحدود الدول وسيادتها. بعد كل هذا الوقت بقي الصراع بين هاتين الصورتين يشكل أساس المشكلة في لبنان.



انتفاضة بكركي في أيلول 2000

هذا الصراع هو الذي أدّى إلى حلّ حزب «القوات» في 23 آذار 1994 بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة. وهو الذي أدّى إلى اعتقال الدكتور سمير جعجع في 21 نيسان. منذ ذلك التاريخ اعتقد «الحزب» أن الساحة اللبنانية باتت تحت سيطرته المطلقة وتحت سيطرة النظام السوري المؤبّدة، ولكنّه لم يحتسب للتحوّلات على هذه الساحة.


قبل أيام من صدور نداء المطارنة الموارنة في 20 أيلول عام 2000 استقبل راعي أبرشية دير الأحمر وبعلبك المطران منجد الهاشم العميد رستم غزالة، مساعد رئيس جهاز الاستخبارات السورية في لبنان، الذي طلب إليه نقل رسالة خاصة من رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير. تقول الرسالة: «تبيّن لنا أنّكم أشرف وأخلص وأصدق شخصية في لبنان على الإطلاق. ونودّ أن نطوي صفحة الماضي ونتعاون في سبيل خدمة شعبنا الواحد في بلدينا المستقلَّين، الجمهورية اللبنانية والجمهورية العربية لسورية». نقل الهاشم الرسالة إلى صفير الذي قرأها ووضع الورقة على الطاولة وقال للهاشم: «قل له إنّه سيسمع الجواب يوم الأربعاء في 20 أيلول». وكان نداء المطارنة الشهير الذي طلب سحب الجيش السوري من لبنان.


على هذا النداء بنيت أحلام الاستقلال اللبناني الجديد. وقد لاقاه وليد جنبلاط منذ إطلاقه، وبعد ثلاثة أعوام سيلاقيه رفيق الحريري رفضاً للتمديد للرئيس إميل لحود ومخالفةً لقرار الأسد الإبن و»حزب الله». وكان الثمن اغتيال الحريري.



انتفاضتا 14 آذار و17 تشرين

في 8 آذار قاد أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله تظاهرة الشكر للأسد في ساحة رياض الصلح. ولكن هذه التظاهرة لم تمنع تنفيذ قرار الأسد سحب جيشه من لبنان. كما بعد الاتفاق الثلاثي شكك مسؤول دبوماسي أميركي في بيروت في قدرة القوى المناهضة لـ»حزب الله» والنظام السوري على تنظيم تظاهرة حاشدة تتفوّق على تظاهرة 8 آذار وتطلب تنفيذ الانسحاب السوري من لبنان. ولكن التظاهرة في 14 آذار فاقت كل التوقّعات وفرضت تنفيذ شقّ القرار الدولي 1559 المتعلّق بسحب الجيش السوري من لبنان. بقي الشقّ المتعلّق بسلاح «حزب الله». بعد عشرين عاماً تلوح في الأفق إمكانية تنفيذ هذا الشقّ.


عندما حصلت ثورة 17 تشرين 2019 لم يكن هناك أي يقين في أنّها ستهزّ دعائم سيطرة «حزب الله» على القرار اللبناني بعد ثلاثة أعوام على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية مغطياً سلاح «الحزب» ومتماهياً مع رغباته في السيطرة على القرار السيادي وعلى سلطة الدولة ومستسلماً له. طالبت هذه الثورة بالحكم الرشيد والعادل وبإنهاء الشراكة بين السلاح والفساد، وباستعادة سيادة مؤسسات الدولة بدءاً من رئاسة الجمهورية. عندما لم تنجح محاولة فرض قمع هذه الانتفاضة عن طريق الجيش بعد رفض قائده العماد جوزاف عون لهذه الأوامر والتمنيات لجأ «حزب الله» مع «حركة أمل» إلى تنظيم عمليات قمع ميليشياوية ضد المنتفضين. فاعتدوا عليهم وأحرقوا خيمهم وقبضة الثورة ورمزها مرددين هتافات «شيعة شيعة».



جوزاف عون ونوّاف سلام معاً

ما أرادته ثورة 17 تشرين تحقّق على دفعات لم يتوقّعها «حزب الله»:


• بعدما تكبّد خسائر كبيرة واستراتيجية في الحرب مع العدو الإسرائيلي وفقد أمينه العام السيد حسن نصرالله وعدداً كبيراً من قادته، وافق «الحزب» والرئيس نبيه بري وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 27 تشرين الثاني على اتفاق وقف النار الذي ينصّ صراحة على نزع سلاح «الحزب» وتنفيذ القرار 1701 والشقّ المتعلّق به في القرار 1559، والقرار 1680 الذي يقضي بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا واحترام السيادة اللبنانية، وبأن يكون الجيش اللبناني القوة الشرعية التي تحمي حدود لبنان وسيادته.


• في 8 كانون الأول 2024 سقط النظام السوري وهرب الأسد إلى موسكو وسيطرت «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع على دمشق والسلطة وانقطعت طريق طهران بيروت وانسحب «حزب الله» من سوريا بعدما تكبّد على مدى 13 عاماً خسائر فادحة دفاعاً عن هذا النظام.


• في 9 كانون الثاني 2025 انتُخب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية بعدما عجز «الحزب» عن منع هذه الاستحقاق ووجد نفسه في النهاية مضطراً للتصويت له في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عن طريق المشاركة في الحكم والحكومة وتسمية رئيسها.


• في 13 كانون الثاني نجحت قوى المعارضة في تسمية نوّاف سلام رئيساً مكلّفاً تشكيل الحكومة خلافاً لرأي «حزب الله» و»حركة أمل» بعدما منعا تسميته بناءً لرغبة وطلب شارع 17 تشرين. وبعدما كان اسمه مطروحاً لرئاسة الحكومة مع انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية وصل سلام إلى هذا الموقع جنباً إلى جنب مع الرئيس جوزاف عون. وكلاهما خياران كان يعارضهما «الحزب». وصولهما معا زلزال سياسي لم يعرف «الحزب» كيف يواجهه.


بعد 39 عاماً على انتفاضة 15 كانون الثاني، يبدو أنّ 15 كانون الثاني 2025 يعيد رسم خريطة طريق السيادة اللبنانية مع تلاشي تأثير الدعامة الثالثة التي حملت الاتفاق الثلاثي وبقيت وفيّة للنظام السوري السابق وانتقلت من «حركة أمل» إلى «حزب الله». 


هذه الإنتفاضة تظهر بوضوح في خطاب قسم رئيس الجمهورية جوزاف عون وفي الكلمة الأولى التي ألقاها الرئيس المكلف نواف سلام في القصر الجمهوري أمس والتي تتلاقى مع محاور الخطاب لجهة التأكيد على تنفيذ القرارا 1701 بكافة مندرجاته وعلى سلطة الدولة بقواتها الشرعية على كامل أراضيها.