نجيب جورج عوض

سوريا الجديدة: من الأدلجة إلى التعدّد الهووي

في سوريا اليوم، يواجه العديد من السوريين والسوريات اتهامات وتهديدات، ويمارسون تنمراً لفظياً على كل من يشاء أن يعرّف عن نفسه بدلالة أي عبارة سوى "أنا سوري/ة"، إذ ينعتونهم بأنهم طائفيون يحقدون على الآخر ويعادون الهوية السورية الجامعة. هذا ما تعرّضت له، مثلاً، الوثيقة التي أصدرتها مجموعة سوريا الحرة المُتشكّلة حديثاً من قبل مجموعة من السوريين ذوي الخلفية المسيحية، إذ عرّف مؤسّسوها عن أنفسهم للشارع السوري على أنهم "سوريون مسيحيون ومسيحيات".



ولكن، ما هو المنطق الذي يجعل معدّي الوثيقة المذكورة يتحدثون بهذه الطريقة، وما هي الذهنية التي دفعت شريحة من السوريين لاتهامهم والتنمّر عليهم بسببها؟ إن ما يجعل مجموعة سوريا الحرة تتحدّث هووياً عن نفسها بهذه الطريقة هو إيمانها بأن أي دولة ومجتمع قاعدتها الحرية ينبغي أن تمارس مبدأ "التعدد/التنوع الهووي". أما ما يجعل طيفاً واسعاً من السوريين ينزعجون من منطق التعدد الهووي المذكور فهو سياسة وآيديولوجية "طمس الهويات" التي مورست عليهم في عهد نظام الأسد - البعث الراحل.


في العقود الخمسة التي خنقت سوريا تحت نير الحكم الأسدي - البعثي، مُنع السوريون من حرية التعدد الهووي بأن فرضت عليهم السلطة من أعلى هوية واحدة جمعية آيديولوجية عروبوية هي "الهوية العربية السورية" (هوية غامضة وغير واضحة المضمون اليوم). مُنع السوريون من بناء علاقات وعي ذاتي وتفاعلي مع خلفياتهم الثقافية والعرقية واللغوية والسوسيولوجية والدينية والمذهبية المتنوعة والفسيفسائية الغنية التاريخية. إن قال المرء "أنا سوري مسلم" اتّهم بأنه متطرف وراديكالي، وإن قالت "أنا سورية مسيحية" اتهمت بالانسلاخ والتنكر، وإن قال "أنا سوري علماني" اتهم بأنه معادٍ للقومية والإسلام، وإن قالت "أنا سورية علوية" اتهمت بالتعالي والتفوق المجتمعي، وإن قال "أنا سوري كردي" اتهم بالانفصالية، وإن قالت "أنا سورية درزية" اتهمت بعدم الولاء لسوريا، وإن قال "أنا سوري سرياني" اتهم بأنه معادٍ للهوية العربية.


سمحت آلة النظام الأمنية والتعبوية فقط لابن وابنة المجموع الأرمني أن تقول "أنا سورية أرمنية" بهدف جعل الأرمن يشعرون دوماً بأنهم غرباء وجالية أجنبية موجودة على الأرض السورية بكرم ورعاية من نظام الأسد، مع أن الأرمن متجذرون تاريخياً وبعمق في تربة أرض سوريا وحاضرون فيها على مدى ألفيتين من الزمان. ما مورس في سوريا كان طمساً ممنهجاً وقمعاً دولتياً وحتى عنفياً للهويات المتعددة ولحرية اختيار السوريين لهوياتهم الفردية والتعبير عن سوريتهم من خلال تنوع خلفياتهم وثقافاتهم ولغاتهم وأصولهم الإثنية وانتماءاتهم الدينية. وكل هذا تحت شعار "الهوية العربية السورية" الجامعة والواحدة.


واليوم، يعلن السوريون والسوريات بأن سوريا الجديدة هي "سوريا حرة". إن كانت هذه هي الحال، فيجب أن لا تستمر بالتمسك، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، بذهنية الطمس والجمعية الهووية، بل يجب أن تكون سوريا منعتقة من قيود الإيديولوجيات القمعية السابقة، وعلى رأسها إيديولوجية "طمس الهويات". إن الحرية في أحد تمظهراتها المدنية والمجتمعية تتجلى في حق المواطنين بممارسة مبدأ "التعدد/التنوع الهووي". يجب أن يختار كل مواطن ومواطنة بحرية كيفية مزاوجة ومصالحة خلفياتهم وقناعاتهم وانتماءاتهم الفردية الخاصة، الثقافية والسوسيولوجية، والعرقية، والدينية، والطوائفية (وليس الطائفية)، واللغوية، والشخصية، من جهة، مع الهوية الجمهورية الوطنية الجامعة (وليس الجمعية) والموحدة (وليس التأحيدية) التي نعبر عنها باستخدام مفردة "سوري". ما لم نحترم التنوع والتعدد الهووي لن يكون هناك مجتمع ودولة حرة في سوريا المستقبل، بل سنواظب على ممارسة إيديولوجية جمعية بعثية عروبوية مستبدلين فقط اسم تلك الإيديولوجية الجمعية ومحاولين فرضها على المواطنين والمواطنات من فوق، من هرم السلطة.


إن مخاوف المواطنين والمواطنات السوريين من حرية التنوع والتعدد الهووي وإمكانية الانزلاق منها إلى تشظي وتشرذم طائفي في سوريا، لهو خوف مفهوم ويمكن تفسيره. غير أنه ليس بالخوف المشروع أو المبرر. إذ لا ينبغي التضحية بالتعددية والتنوع في ما يتعلق بالوعي الهووي لمجرد الخوف من أن التنوع والتعددية قد يقودان إلى نزاع وتنافر. ففي غياب التعددية والتنوع الهووي الفردي نستمر في أدلجة المجتمع السوري ودمغه هووياً بمنطق من يملك القوة والسلاح والسلطة والهيمنة (كما فعل نظام الأسد البعثي). ما يحمي المجتمع والدولة من منزلقات ممارسة التنوع والتعدد الهووي هو منطق "الوحدة-في-التنوع" أو التناغم الذي ينطلق من قاعدة التنوع والتعدد ويبحث على أساسها عن مشتركات تشكل التعاقد المدني والأهلي الذي يحمله ويشرعنه ويقوننه الدستور الوطني.


إن منطق "التعدد/التنوع الهووي" هو وحده الكفيل بالقضاء على مرض "الطمس الهووي". وهذا هو المنطق الذي يدفع وثيقة مجموعة سوريا الحرة للحديث عن تأسيس مجتمع ودولة سورية قوامها التعدد والتنوع التي يحميها الدستور ويتيحها القانون المدني. ينبغي أن تبقى سوريا متعافية وخالية من مرض "الطائفية" والعداء باسم الهوية. غير أن أي هوية سورية جامعة لا يمكن أن تكون حقيقية وأصيلة ونابعة من الأسفل ما لم تُبنى على قاعدة التنوع والتعدد الهووي الضارب عميقاً في تربة سوريا التاريخية. نحن سوريون لأننا متعددون ومتنوعون، ولسنا سوريين بالرغم من تعدديتنا وتنوعنا.


في سوريا المستقبل، لن يحمي البلد من التقسيم والمجتمع من التفتت الداخلي سوى احترام وضمان حرية المواطنين والمواطنات الأفراد بالتعريف عن أنفسهم وتشكيل هوياتهم من خلال محاولة المزاوجة والمصالحة بين انتمائهم لسوريا الوطن والبلد والوجود السكاني، من جهة، وانتماءاتهم الفردية الخاصة والشخصية التي اختاروا أن يفهموا ذواتهم أيضاً من خلال فرادتها وتنوعها وتطيفها من جهة أخرى. الخوف من التنوع الهووي لا يصنع هوية جامعة. طمس التعدد الهووي يعيق خلق هوية جامعة، فلا وحدة بدون تنوع، وإلا فإن طمس التنوع يعني فرض تأحيدية جمعية وقمعية ضد حرية الأفراد.