"النأي بالنفس" و"سياسة الحياد" نهجان حرص العراق على العمل بهما مواكبة للتغيّرات المتسارعة التي تعصف بالمنطقة من غزة إلى لبنان، فسقوط النظام السوري. إلّا أنه مع التراجع الكبير للنفوذ الإيراني وانكسار أذرعه، اتجهت الأنظار إلى الفصائل العراقية الموالية لطهران. وها هي بغداد في كواليسها منشغلة أكثر من أي وقت مضى بالحديث عن مطالب وشروط دولية تقودها الولايات المتحدة لحل الفصائل المسلّحة المرتبطة بما يُسمّى "محور المقاومة" وهيكلة هيئة "الحشد الشعبي" ودمج عناصرها في وزارة الدفاع العراقية.
هذا السيناريو ينفيه نفياً قاطعاً "الإطار التنسيقي"، وهو تجمع برلماني غير رسمي يضمّ القوى الشيعية الرئيسية في البرلمان العراقي، ويرفض "الإطار" ما يتم تداوله فعلاً عن حلّ هيئة "الحشد الشعبي" أو تفكيك الفصائل الأخرى الموالية لإيران. إلّا أن حركة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني داخلياً وخارجياً، والمعلومات التي يبثها الإعلام العراقي، لا تستطيع كبح جماح التساؤلات حول مصير هذه الفصائل، خصوصاً بعد تولّي الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب مهامه.
المشهد العراقي أكثر تعقيداً مِمَّا يوحي به الواقع، فهو ينقسم بين القوى السياسية التقليدية والقوى الجديدة، أي ميليشيات "الحشد الشعبي" والفصائل الأخرى، وباتت الساحة العراقية اليوم، الورقة الأخيرة المتبقية بيد إيران للتفاوض. المراقب السياسي للشأن العراقي علي حكمت يؤكد لـ "نداء الوطن" أن "محور المقاومة" في العراق هو الأضعف في المنطقة، ويصف "المقاومة العراقية" بالعُدّة وليس العدد، وسلاحها بالـ "ديكور". وبالتالي، فإن هذه الفصائل تخوض انقساماً داخلياً حالياً بين من يُريد أن تفاوض إيران عنه عندما تأتي ساعة التفاوض، وبين من يرفض أن تفاوض طهران باسمه على قاعدة "نحن أسياد قرارنا".
وهنا يشرح حكمت أن لا شيء واضحاً بعد لجهة السياسة التي سيعتمدها ترامب في الملف العراقي، والكلّ يترقب أداءه، فما مصير هذه الفصائل؟ بحسب حكمت، فإن الفصائل العراقية في نهاية المطاف تبحث عن مصلحتها داخلياً، بعيداً من مصلحة طهران حتى، وهي مستعدّة لتسليم سلاحها والبقاء في السلطة مقابل ضمانة أميركية، إلّا أنها لا يُمكن أن تعوّل على أخذ هكذا ضمانة من رئيس كترامب، هو الذي سحب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني بـ"شخطة قلم".
ويذهب حكمت أبعد من ذلك، لافتاً إلى أن كلّ الكلام الذي يُسوّق له حالياً عن طلب أميركي - دولي بحلّ الميليشيات والفصائل العراقية غير صحيح، ولعلّ اللقاء الأخير الذي جمع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خير دليل على تنحي إدارة بايدن عن الملف العراقي وإيحاله إلى إدارة ترامب الجديدة.
وبالتالي، سلاح الفصائل باق حالياً حفاظاً على "القوّة" في الداخل وليس لتهديد الخارج، فطهران لا تثق بهذا السلاح وفعاليّته، يؤكد حكمت، معتبراً أن كلّ العراق هو رهينة المجتمع الدولي، وما يُسمّى "محور المقاومة" بانتظار ترامب، وعلى ما يبدو أن إدارته مصرّة على عدم التعامل مع أي جهة مدرجة على لوائح الإرهاب، وهو حال بعض الفصائل العراقية كـ "عصائب أهل الحق"، وأبواب واشنطن غير مفتوحة أمام السوداني كما كانت مفتوحة أمام سلفه مصطفى الكاظمي الذي أحيا العلاقات الخارجية للعراق.
وكلّ الحركة والزيارات الخارجية للسوداني مجرّد "استعراض" ومحاولة منه لتسويق صورة رئيس الوزراء المُنقذ أمام الرأي العام العراقي، وزخمٌ يحتاجه كلّ من السوداني و"الإطار التنسيقي" كما الميليشيات، بحسب حكمت.
في المحصّلة، الأيام القليلة المقبلة كفيلة بكشف سياسة ترامب تجاه العراق وميليشياته، فهل يتعامل مع "محور المقاومة" أو ما بقي منه كرزمة واحدة أو كلّ بلد على حدة؟