يعود الأفرقاء اللبنانيون عند كل حرب أو عمل عسكري يقوم به "حزب الله" (تموز 2006، 7 ايار 2008 واسناد غزة) إلى طرح موضوع الاستراتيجية الدفاعية. هذا الطرح عاد إلى الواجهة من جديد بعد الموافقة على التدابير والاجراءات الأمنية برعاية أميركية لوقف حرب الإسناد، لكنه هذه المرة لم يقتصر على معارضي الحزب بل شمل قيادات فيه وبالتالي يمكن وضعه في الخانات التالية:
فريق من اللبنانيين يطرح الموضوع في سبيل التخلّص من سلاح الحزب من دون إيجاد الحلول لمشكلة الدفاع الوطني وكيفية حماية لبنان من الأخطار والتهديدات التي تواجهه. ينطلق هذا الفريق من ان مرحلة ما بعد الطائف حتّمت حلّ كل الميليشيات وتسليم أسلحتها وأنّ التحرير تمّ عام 2000.
فريق آخر يريد إيجاد حلّ للسلاح ولكن من خلال ما يعرف بالـ "الاستيعاب" عبر ضمّ السلاح والمسلّحين إلى الجيش اللبناني، إمّا مباشرة إلى وحداته أو إنشاء وحدات جديدة تستوعب الأعداد الكبيرة لعناصر الحزب وسلاحه.
- فريق الحزب المشكّك بقدرة الجيش والذي يصرّ على إبقاء السلاح ويردّد ثلاثية "شعب، جيش ومقاومة" التي لم تستطع الدفاع عن لبنان وأهله، مع حدوث تطوّر هام في مقاربة الموضوع حيث صرّح محمود قماطي نائب رئيس المجلس السياسي للحزب: "إذا كنّا شركاء حقيقيين في الوطن، فعلينا أن نبني استراتيجية دفاعية تدافع عن هذا الوطن، فالجيش وحده لا يستطيع أن يواجه العدو...".
واقع الحزب منذ العام 2000 يخلق الاشكاليات التالية في موضوع "الاستراتيجية الدفاعية":
اشكالية دستورية أولى متمثّلة في مقدّمة الدستور الفقرة د: "الشعب صاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية"، والحزب بسلاحه وعناصره مؤسسة غير دستورية اذ لا يكفي أن تدعم فئة من اللبنانيين أعماله ولا حتى تضمين البيانات الوزارية وضعاً مؤاتياً له حتى يصبح مؤسسة دستورية يتّخذ لوحده قرار الحرب والسلم نيابة عن مجلس الوزراء -المؤسسة الدستورية.
إشكالية دستورية ثانية متمثلة في المادة 10 من الدستور: "التعليم حرّ ما لم يخلّ بالنظام العام" وبالتالي يريد فريق من اللبنانيين أن يضمّ إلى الجيش الوطني من تتلمذ في "مدارس خاصة" على عدم الاعتراف بنهائية الكيان اللبناني ولا بحدوده: فهو يقاتل حروب الثغور التي تتوسع أو تضيق من اليمن، العراق، سوريا ولبنان وفقاً لقوّة المركز في طهران ضارباً بعرض الحائط المصالح الوطنية معرضاً النظام العام للخطر.
إشكالية مع مفهوم القانون الدولي الذي يعتبر أنّ الحقوق السيادية هي الحقوق الشرعية التي تمارسها الدولة -اللبنانية - على منطقة جغرافية معيّنة - وهي كامل مساحة لبنان - ومحدّدة بموجب الدستور -اللبناني- والتي يسكنها الشعب -اللبناني- وبالتالي انها ممارسة الدولة للسلطة دون أي تدخل خارجي عكس ما يحصل في التدخل الايراني عبر ذراعه العسكري -حزب الله- على القرار السيادي اللبناني.
إشكالية عقائدية إذ يتبع عناصر الحزب عقيدة ولاية الفقيه القائمة على وجود قائد السيد الخامنئي، وعلى القرار الذي يتخذه هذا القائد وهو بناء القوة بهدف تعزيز وتوسعة نفوذ طهران في ميزان القوى الاقليمي، مما دفع الحزب إلى شن حرب دعم حماس في غزة، وقائمة ايضاً على الرضى عن اي قرار يتخذه القائد دون اي نقاش فيه على اعتبار انه يصب في مصلحة مؤيدي العقيدة، حيث يعلو صوت المعركة على كل شيء آخر. هذه العقيدة الشمولية والعابرة للحدود تناقض العقيدة الوطنية الدفاعية للجيش اللبناني القائمة على حماية لبنان والدفاع عن حدوده فقط.
إشكالية الإخلال بتركيبة الجيش التي هي انعكاس للمجتمع اللبناني التعدّدي في حال استيعاب آلاف من العناصر الحزبية المؤدلجة من فئة واحدة وضمّهم إلى الجيش الوطني فتصبح أعداد هذه الفئة مرتفعة جداً مقابل أعداد الفئات الأخرى ممّا يؤدي إلى اختلال خطير في تركيبة الجيش التعددية مما يعرضه للتشكيك بدوره الوطني.
إشكالية أي جيش نريد بوجود الحزب المسلّح؟ اذ لم تحدّد أي من الحكومات المتعاقبة على السلطة اي جيشٍ تريد: ما هو الدور المنوط به؟ هل هو الجيش المحترف والبعيد عن السياسة؟ أم الجيش الشرطي؟ أم الجيش القائم على التعاقد؟ أم الجيش القائم على التفاهم بين النخب الحاكمة والنخب العسكرية؟ وبالتالي وجب تحديد مستوى عديده وتسليحه وتدريبه وأيضاً تخصيص الموارد المناسبة له وفقاً للدور المنوط به.
إشكالية الاقتصاد المهترىء منذ العام 2019 والذي زاد اهتراءً بعد حرب الإسناد حتى وصلت تقديرات الناتج المحلي إلى 13 مليار دولار بعد أن بلغت الـ 55 مليار عام 2018. هذا الاقتصاد المنكمش والسالب بكل مؤشراته لا يستطيع رفد الاستراتيجية الدفاعية بالموارد الدفاعية اللازمة بدءاً بالمعاشات لجيش سيتعدّى عديده المائة الف وصولاً إلى التسليح واللوجستية والصيانة الخ.
إشكالية الاتفاق والاختلاف حول الأخطار والتهديدات التي يواجهها لبنان فمنذ نشوء القضية الفلسطينية انقسم اللبنانيون حول دعم العمل العسكري الفسطيني من لبنان والخطر الذي يشكله مستجلباً العدو الاسرائلي لضرب الوطن. ثم اختلف اللبنانيون حول الاحتلال السوري ففريق أيّد وجوده وآخر اعتبره خطراً وجودياً. اختلف اللبنانيون على خطر الارهاب من نهر البارد واعتباره خطاً أحمر إلى احتلال عرسال وخطف الجنود اللبنانيين وتصفيتهم وصولاً إلى الخلاف على إسناد غزة.
إشكالية السلاح النوعي لدى الحزب الرافض تسليمه إلى الجيش اللبناني محاولاً اخفاءه واعادة تركيزه تحت مراقبة العدو الذي يسارع إلى تدميره عند تحريكه.
إشكالية البدء بالاستراتيجية الدفاعية من دون وضع استراتيجية الأمن الوطني (القومي) اذ تعتبر الاولى فرعاً من الثانية فلماذا الاصرار على البدء بها بدلاً من وضع الحكومة الاستراتيجية الأصل؟.
كيف السبيل إذاً لمعالجة هذه الاشكاليات؟
يكمن الحل اولاً وأخيراً بتنفيذ خطاب القسم: "حق الدولة في احتكار حمل السلاح. دولة تستثمر في جيشها ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوباً وترسيمها شرقاً وشمالاً وبحراً ويمنع التهريب ويحارب الارهاب ويحفظ وحدة الاراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتّفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الاسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقاً لأحكام الدستور... عهدي أن أدعو إلى مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكن الدولة اللبنانية، اكرر الدولة اللبنانية من ازالة الاحتلال الاسرائيلي ورد عدوانه عن كافة الاراضي اللبنانية".
تنفيذ خطاب القسم يحتّم العودة إلى المؤسسات الدستورية وبالتالي تأليف حكومة فاعلة تضع أول ما تضعه استراتيجية الأمن الوطني(القومي) حيث حدد الدستور اللبناني في المادة 65 صلاحية الحكومة بـ"وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها" و تحدد فيها الأخطار والتهديدات والتحديات التي تواجه لبنان وكيفية مجابهتها وتخصيص الموارد اللازمة لتنفيذها.
تتضمن هذه الاستراتيجية من سيقوم بماذا ومتى وكيف على مستوى الوزارات كافة والتي تقوم كل منها بوضع استراتيجيتها الفرعية. تقوم وزارة الدفاع الوطني بوضع الاستراتيجية الدفاعية وتحيلها بدورها إلى قيادة الجيش لتضع استراتيجيتها العسكرية طويلة ومتوسطة المدى. هذا المسار بين المستوى الوطني، الدفاعي والعسكري يحدّد الحاجة إلى ما يمكن استيعابه من سلاح وعناصر-بعد اعادة تأهيلها- وفقاً للحاجة والفعالية والكفاءة التي يجب أن تتمتع بها المؤسسة العسكرية ضمن دورها الوطني في الدفاع عن لبنان.