أنطونيو رزق

كييف تحتاج إلى ضمانات أمنية جدّية

ترامب ومساعي إنهاء الغزو الروسي

كبّدت الحرب كلّاً من روسيا وأوكرانيا خسائر فادحة (رويترز)

بعد تدشين الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس إثر حملة انتخابية طويلة وعد خلالها بوضع حدّ لجملة من الحروب التي اندلعت في أنحاء المعمورة أثناء ولاية سلفه جو بايدن، يترقب الأوكرانيون خصوصاً، الخطة التي أعدّها الرئيس الأميركي الـ 47 وفريقه لإنهاء الغزو الروسي المدمر لأوكرانيا، الذي يدخل عامه الرابع الشهر المقبل. ولكن سعي ترامب إلى إنهاء الحرب بسرعة قياسية كما وعد، يُثير هواجس الأوكرانيين الذين يتخوفون من أن يأتي ذلك على حساب مصلحتهم بإرساء سلام مرتكز على قوة أوكرانيا، التي تضمن عدم تراجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أي اتفاق يُمكن أن يتوصّل إليه ترامب، بعد نهاية ولاية هذا الأخير وإعادة ترميم الجيش الروسي المُنهك.


عبّر الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن الهواجس الأوكرانية بوضوح خلال مقابلة أجراها مع الإعلامي ليكس فريدمان عبر منصة الأخير على "يوتيوب" منذ أسبوعين، حيث قدّر نية ترامب بحقن الدماء وإيقاف آلة القتل في أوكرانيا، لكنه حذر من استغلال بوتين إرادة ترامب هذه عبر دفعه نحو اتفاق يفتقر لضمانات أمنية جدية لكييف، الأمر الذي يرى زيلينسكي أنه سيمنح بوتين وقتاً ثميناً يُعيد خلاله إنعاش اقتصاد بلاده المُثقل بالعقوبات الغربية ورصّ صفوف مجتمعه المُتعب من الحرب وجيشه، الذي فقد مئات الآلاف من العناصر بين قتيل وجريح، قبل أن يُتابع مسعاه لتحقيق أحلامه الإمبراطورية عبر بوابة كييف في المستقبل.


يبقى السؤال، ما هي الضمانات الأمنية التي يعتبرها الأوكرانيون كافية لردع طموحات بوتين التوسعية؟ بطبيعة الحال، جدّد زيلينسكي تأكيد رغبة بلاده بالانضمام إلى حلف "الناتو"، إذ تشكل عضوية "الناتو" الضمانة الأمنية الوحيدة التي أثبتت التجربة التاريخية أنها الأكثر فعالية في كبح جماح نظام الكرملين، خصوصاً في أوروبا الشرقية. ولكن، يعلم زيلينسكي أن الطريق المؤدية إلى عضوية "الناتو" طويل وشائك، نظراً لرفض بوتين القاطع للفكرة من جهة، ولتخوف الكثير من الدول الأعضاء في الحلف، التي تحتاج أوكرانيا إلى موافقتها بالاجماع للانضمام، من التعهد بالمدافعة عن أوكرانيا في حال الاعتداء عليها من قِبل روسيا، وفقاً للمادة الخامسة من معاهدة "الناتو"، من جهة أخرى.


تبعاً لذلك، طرح زيلينسكي ضمانة أمنية بديلة عن عضوية "الناتو" تقضي بتقديم الغرب، ولا سيما أميركا، دعماً عسكرياً مُستداماً لكييف، يشبه ما تقدّمه واشنطن لتل أبيب، التي ليست عضواً في "الناتو". وفق هذا الطرح، تبقى أوكرانيا خارج "الناتو"، ما يُريح الروس نسبياً، وتحصل أوكرانيا في المقابل على حزمة مساعدات عسكرية دورية من الولايات المتحدة وحلفائها، فضلاً عن التعاون في مجالات التدريب والاستخبارات والصناعة العسكرية والتكنولوجيا وغيرها.


إذا حصلت كييف على هذا النوع من الضمانات الأمنية، يُمكنها عندئذ التخلّي عن الأراضي التي تحتلّها روسيا حالياً في شرق أوكرانيا وجنوبها، من دون التخوّف من غزو روسي جديد بعد بضع سنوات، لأن الدعم العسكري الغربي سيُمكّن كييف من حماية حدودها وردع موسكو عن غزوها من جديد. ويأتي هذا الطرح منسجماً مع شروط بوتين لإنهاء الحرب، حيث أعاد الكرملين التأكيد منذ أسبوعين أن موسكو مستعدّة لإنهاء الحرب إذا تخلّت أوكرانيا عن رغبتها في عضوية "الناتو" وانسحبت بالكامل من أربع مناطق تسيطر عليها روسيا جزئياً.


تبدأ ولاية ترامب في وقت حسّاس بالنسبة إلى كلّ من موسكو وكييف على صعيد الميدان. صحيح أن القوات الروسية تتقدّم في شرق أوكرانيا منذ أشهر، لكنها تتقدّم ببطء شديد وتتكبّد خسائر فادحة على مستوى العديد والعتاد. كما استطاعت أوكرانيا استهداف منشآت عسكرية وطرق إمداد في العمق الروسي بنجاح، بعدما سمحت لها إدارة بايدن باستخدام صواريخ أميركية دقيقة. بالإضافة إلى ذلك، يُعاني الكرملين من نقص في عديد جيشه، نظراً إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح من جرّاء تكتيكات الحرب الهجومية السوفياتية المعتمدة، ولعدم رغبته في تجنيد عدد كبير من الشباب الروسي مرّة جديدة خوفاً من نقمة شعبية قد تنفجر في وجه بوتين. تلك الأسباب هي تحديداً ما دفع روسيا إلى الاستعانة بجنود كوريين شماليين للقتال في منطقة كورسك الروسية التي تحتلّها أوكرانيا جزئياً.


بدورها، تعاني كييف أيضاً من نقص في عديد جيشها بسبب الفرق الكبير بين أعداد الروس والأوكرانيين لمصلحة موسكو، كما أن زيلينسكي حرص على عدم تجنيد الشباب دون الـ 25 عاماً. فضلاً عن ذلك، ارتفعت وتيرة القصف الروسي كمّاً ونوعاً في الشهرين الأخيرين، حيث استهدفت موسكو، خصوصاً قطاع الطاقة في كلّ أنحاء أوكرانيا، ما أدّى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن مدن كبرى لساعات وأحياناً لأيام. عدم امتلاك أوكرانيا دفاعات جوية كافية لحماية منشآتها الحيوية والمراكز السكانية في آن، يُجبرها على تخصيص الدفاعات التي تملكها لحماية المدنيين، ما يترك بناها التحتية الأساسية مكشوفة.


تبادل بوتين وترامب رسائل علنية خلال الأسبوعين الأخيرين تشي بلقاء محتمل بين الرجلين في المستقبل القريب. طبعاً، لن ينتج عن هذا اللقاء في حال حصوله تسوية شاملة للنزاع، لكنه سيقدّم تصوّرات كلّ من ترامب وبوتين العملية لإنهاء النزاع، ما قد يُعبّد الطريق أمام مفاوضات مباشرة بين بوتين وزيلينسكي برعاية ترامب، ينتج عنها تسوية للغزو الدموي، ويُعطي ترامب فرصة الفوز بجائزة "نوبل للسلام". ولكن، لكي لا يقع ترامب في موقف وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، الذي نال الجائزة بعد "اتفاق باريس" الذي أنهى حرب فيتنام، قبل أن ينهار الاتفاق بسقوط سايغون، عليه تقديم ضمانات أمنية جدّية لكييف، لأن التجربة التاريخية أثبتت أن نظام الكرملين لا يردعه إلّا توازن القوى.