شهد لبنان منذ استقلاله عام 1943 تحولات جوهرية في بنية النظام السياسي، انعكست على علاقة مكوناته المذهبية والطائفية بالدولة. فمنذ لحظة التأسيس، إلى اليوم عرف لبنان بعد الاستقلال، المارونية السياسية، السنيّة السياسية، والشيعية السياسية، مع العلم أن الدرزية السياسية كانت حاضرة لعقود في "جبل لبنان" قبل لبنان الكبير.
يمكننا تقسيم التاريخ السياسي للبنان بعد عام 1943، إلى أربع مراحل رئيسة، انطلاقًا من نظرة المكوّنات المختلفة للبنان ولدوره، وخاصة موقعها في سلم السلطة، التي طبعت كلّ مرحلة:
• المارونية السياسية: بناء الدولة، والأرجحية المسيحية (1943–1969)
• الحرب اللبنانية: اِنهيار الدولة، وتفكّك الكيان على قياس مكوّناته (1969–1990)
• تعزيز مكانة السُنّة: إعمار، وإقصاء المسيحيين بالسيطرة السورية (1990– 2005)
• الشيعية السياسية: العزلة اللبنانية والارتهان للسياسات الإيرانية (2005-2025)
إن مع يعنينا في هذا المقال، هو المرحلة الرابعة، أي الصعود الشيعي، الذي بدأ يتحقق فعليا، بعد اتفاق الطائف وإعادة تموضع المكون الشيعي في بنية السلطة بما يضمن مشاركة أكبر في القرار، وقدرة فعلية على التأثير. وقد تحقق ذلك فعليا، من خلال الدور الذي لعبه الرئيس نبيه بري، إلى جانب الرئيس رفيق الحريري، والرئيس الياس الهراوي، بما عرف في حينها بالترويكا، وهو أحد الأشكال الأولى لتشكل "المثالثة" بين الموارنة، السنة، والشيعة.
كان للرئيس بري الدور الكبير في تحسين تموضع المكون الشيعي في بنية النظام والمؤسسات، من خلال موقعه في رئاسة مجلس النواب، الذي تكرس كمرجع رئيسي في تشكيل السلطة السياسية في لبنان، عبر تحكمه بجلسات مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية "الماروني". وأيضا، من خلال مشاركة وزراء موالين له في الحكومات المتعاقبة، وخاصة من خلال العلاقة المميزة مع الرئيس الحريري، والمسؤولين البارزين في أجهزة الوصاية السورية على لبنان، في تلك الفترة.
هذا الدور للرئيس بري، على مستوى المؤسسات، استمر بشكل تصاعدي، على مستويات مختلفة، خاصة في السعي لإعادة قراءة الميثاق الوطني لعام 1943 بين المسيحيين والمسلمين، بتفسيرات جديدة ترتبط بالمذاهب وليس الطوائف، وأيضا بصحة تمثيل المذاهب عبر القوى السياسية الرئيسة للمذهب، كما حصل مع "استقالة الوزراء الشيعة"، عام 2006، من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، من أجل نزع "الثقة الميثاقية" عن الحكومة، وأيضا عند السعي لتشكيل أي حكومة، حيث تكون مطالبة حزب الله وحركة أمل، بضرورة تمثيل الشيعة من خلالهما حصرا، بما يعني تحول الميثاق الوطني إلى إرضاء القوى السياسية الشيعية.
المكسب الآخر الذي تحقق للمكون الشيعي، كان عبر اتفاق الدوحة عام 2008، في فرض الحصول على "الثلث المعطل" في الحكومات التي لا تكون أغلبيتها في قبضة الشيعية السياسية. أهمية "الثلث المعطل"، أنه يحجب التصويت على المسائل الكبرى في الحكومة والتي تستدعي أغلبية الثلثين، والمسألة الأكثر أهمية، أنه يقبض على موقع رئاسة الحكومة ورئيس الحكومة من خلال التهديد بالاستقالة، بما يعني اعتبار الحكومة مستقيلة لفقدانها ثلث أعضائها. وهو ما تم فعلا عام 2011، بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، نتيجة خلاف مع حزب الله حول تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي أدانت في سنوات لاحقة قيادات وعناصر من حزب الله في اغتيال والده، الرئيس رفيق الحريري.
ومنذ العام 2014، تعمل القوى السياسية الشيعية، على تكريس مطلبًا قديمًا استجد منذ اتّفاق الطائف، بأن تكون وزارة المالية من الحصّة الشيعية في الحكومة كعرفٍ دائم. في الواقع تسلّمت وزارة المالية منذ العام 2014 شخصية من المذهب الشيعي، وذلك من أجل ضمان مشاركة الشيعة في قرارات السلطة التنفيذية، من خلال التوقيع الضروري لوزير المالية على المراسيم التي تتطلّب إنفاقًا عامًا، إلى جانب توقيع الوزير المختصّ، رئيس الحكومة، ورئيس الجمهورية.
هذا الدور للرئيس بري وحركة أمل، على مستوى المؤسسات الدستورية، قابله دور مشابه لحزب الله، من خلال ممثليه في الحكومة ومجلس النواب، بشكل رئيسي من خلال تجديد التشريع لسلاح حزب الله، من خلال البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة على مختلف تشكيلاتها، ولكن الدور الفعلي لحزب الله كان أكبر، وأكثر فاعلية في التأثير على المسارات المختلفة في لبنان، من خلال استعمل هذا السلاح، او التهديد باستعماله، بما غير أو فرض مسارات سياسية، ما كانت لتتحقق من دون السلاح.
اليوم وبنتائج "حرب الإسناد"، والدينامية الجديدة في سوريا بعد خلع نظام بشار الأسد، وأيضا التراجع الكبير للنفوذ الإيراني في المنطقة، يقف المكون الشيعي عند مفترق طرق قد يكون الأهم في مسيرة الصعود الشيعي، خاصة لإمكانية استمرار هذا الصعود، أو الحفاظ على استقرار الموقع المحقق، أو التراجع، وبأية وسائل يمكن تحقيق ذلك.
أسئلة كثيرة، ومراجعات مهمة تنتظر المكون الشيعي من خلال القوى السياسية التي اختار هذا المكون أن تمثله. وكل ذلك، من أجل إعادة التموضع في عهد جديد، بما يحد من خسائر المكتسبات على مستوى النظام السياسي، والتي تحققت في السنوات الماضية.
على القوى الشيعية، خاصة حزب الله وحركة أمل، أن تبادر إلى دراسة وطرح خيار الفدرالية بشكل جاد، فالفدرالية ليست تهديداً للمكتسبات، بل إطارًا يحافظ عليها ضمن نظام أكثر عدالة واستدامة. كما توفر للمكوّن الشيعي، فرصة لتعزيز المكاسب السياسية والإدارية ضمن نظام يحترم التنوع.
الفدرالية ليست تفكيكًا للدولة اللبنانية، بل هي إعادة هيكلة تضمن تمثيلاً عادلاً وحقيقياً لجميع المكوّنات. في ظل الأزمات المستمرة، يمكن للفدرالية أن تكون الضمانة الوحيدة لوحدة لبنان واستقراره، من خلال بنية فدرالية توافقية، تمكِّن لبنان من تجاوز أزماته الحالية وخلق بيئة سياسية واقتصادية أكثر استقراراً.
الفدرالية التوافقية هي الحل الذي يجمع بين تعزيز المكتسبات الشيعية وضمان وحدة لبنان، وعلى القوى الشيعية أن تقود هذا النقاش، وأن تسعى لتبني رؤية جديدة تُعزز التعددية والشراكة الحقيقية.
الفدرالية التوافقية في لبنان لحظة شيعيّة. وقد حانت هذه اللحظة.