مرحباً بنا جميعاً في دنيا واتساب، هذا العالم الموازي الذي نعيش فيه أكثر مما نعيش في الواقع! هنا، لا نحتاج إلى جواز سفر، نسافر إلى أقطار الأهل والأصحاب والمعارف، فرادى ومجموعات. حظّنا يفلق الصخر، ومن يقُل عكس ذلك فليلتهمه الشبح الصامت القابع في المجموعات "الواتسأبيّة" كلّها.
واتساب ليس مجرّد تطبيق، إنه مختبر اجتماعيّ حيث تُختبر أعصاب البشر تحت ضغط الرسائل الصوتية الطويلة، والملصقات العشوائية، والرسائل الجماعية التي تبدأ بـ "بونجور" أو "صباحو"، وتنتهي بـ "إذا لم ترسلها لعشرة أشخاص، فستفقد كلّ حظّك في الحياة!".
في هذا العالم، يُقاس الحبّ بسرعة الردّ، وتُعلن الحروب بمجرد رؤية "متصل الآن" (أونلاين) دون أن تصل رسالة، وتتحوّل "العلامتان الزرقاوان" إلى أداة تعذيب نفسية معترف بها دولياً!
فلنشدّ الأحزمة، نحن على وشك الإقلاع في رحلة داخل أغرب جمهورية رقمية عرفها البشر!
مرحباً بنا في سيرك واتساب، حيث يكشف كل فرد عن طبيعته الحقيقية، وغالباً ما تكون أسوأ ممّا كنا نتصوّر:
- ملك الرسائل الصوتية الملحمية؟: هذا الكائن لا يعرف الكتابة العادية. أوه لا، هذا مستحيل. رسائله تقتصر على مقاطع صوتية مدّتها تسع دقائق و43 ثانية، تبدأ بعبارة: "مرحباً، أولاً، آسف على الإطالة…"
نعلم أننا على وشك إهدار عقد من الزمن، ونعلم أيضاً أنّ 80% من الرسالة ستكون مجرّد صمت، وتلعثم، وأصوات احتكاك الهاتف بالملابس، ووقفات درامية لا مبرّر لها. ومع ذلك، نستمع، بدافع الفضول، أو الضعف، أو حبّ تعذيب الذات. في كل الأحوال، أطال الله في عمره وقصّر في رسائله، قولوا آمين!
- المهووس بردّات الفعل؟؟❤: هذا العقل المدبِّر الشرير يعذّب المجموعة دون أن يكتب حرفاً واحداً. بل يقوم بالردّ على كل رسالة برمز تعبيري:
"حسنًا" = ؟
"تمّ الأمر" = ❤
"الطقس جميل اليوم" = ؟ (لماذا؟؟؟)
ذروة شرّه؟ الردّ على رسالة صوتية برمز تعبيري. كيف سنعرف أي جزء بالضبط استحقّ القلب الأحمر؟ هذا اللّغز سيظلّ مجهولاً إلى الأبد.
- مستكشف الصور المتحركة العديمة الفائدة؟، (مثلي أنا؟): نحن لا نعلم من أين يعثر هذا الشخص على كل هذه الصور المتحركة التافهة (بنظر الكثيرين). قطّ يرقص ليتمنّى صباحاً سعيداً، طفل يبكي للردّ على "أوه، هذا محزن؟". رجل يرمش ببطء ليعبّر، ولكن عمّ بالضبط؟ الله أعلم. في يوم من الأيام، سيرسل، هو أو أنا صورة متحركة لنفسه أثناء إرساله صورة متحركة، وعندها سيبلغ العالم مستوى جديداً من العبثية.
- الجاسوس: هذا هو "المخبر الواتسابي"، "جاسوس آخر ظهور"، "عين واتساب التي لا تنام!"، الشخص الذي لا يستخدم التطبيق للدردشة، بل لممارسة أرقى أنواع المراقبة والتحقيقات الجنائية. كلّ يوم، قبل أن يشرب قهوته، يفتح واتساب ويبدأ جولته التفقدية: "طوني كان متّصلاً الساعة 2:37 صباحاً لماذا؟ مع من كان يتكلم؟" أو "رانيا لم تظهر منذ ثلاثة أيام، هل ماتت؟ هل سافرت؟ هل تعيش دراما سرية؟" و "فادي كان أونلاين قبل دقيقة لكنه لم يردّ على رسالتي منذ 5 ساعات… الكائن الوضيع!".
وفي الليالي العاصفة، يجلس في الظلام، يراقب، يحلّل، يسجّل ملاحظاته في دفتره السرّي: "فلان وفلانة كانا متصلين باللحظة نفسها صدفة؟ لا أعتقد!". ويا للهول إذا اكتشف أنّ أحدهم أخفى خاصيّة آخر ظهور، يدخل مباشرة في أزمة وجودية: "ماذا يخفي عنّي؟ لماذا؟ هل يعرف أنني أراقب؟ هل هذه حرب إلكترونية؟". وطبعاً، هذا الشخص لديه مهارة التحديث اليدويّ. كل 30 ثانية، يفتح الشات، يغلقه، يفتحه من جديد، فقط ليتأكّد: "أونلاين… أوفلاين… أونلاين… أوفلاين…".
- الشبح الغامض؟: هذا الشخص موجود في كل المجموعات (الغروبات)، لكنه لا يتكلّم أبداً، لا يردّ، لا يشارك، يراقب فقط، كما لو أنه عين خفيّة تتابع كل شيء بصمت. ثم ذات يوم، فجأة، يكتب رسالة: "تحياتي لكم". يصمت الجميع. لأن لا أحد يعرف كيف يتفاعل مع هذه المعجزة.
- قاتل المجموعات؟: هذا المخلوق عديم الرحمة ينشئ مجموعات واتساب لكل مناسبة ممكنة، "تنظيم عيد ميلاد صديقة" (ثلاث رسائل مفيدة، و2650 رسالة خارجة عن الموضوع). "من يريد الذهاب إلى الشاطئ يوم الأحد؟" (48 ساعة من النقاش ينتهي بانسحاب الجميع). "مجموعة شواء عند جان وريتا" (تتحوّل إلى دورة طبخ جماعية حيث يتشارك الجميع وصفات لن يجرّبوها أبداً). والأسوأ؟ يرفض حذف هذه المجموعات حتى بعد انتهاء المناسبة.
وثمّة من يعتبر نفسه فرعوناً رقمياً، إله المجموعات، الزعيم الأعلى لمملكة واتساب! ذلك الشخص الذي لم يعد مجرّد "أدمن"، بل صار إمبراطوراً بكل ما للكلمة من معنى، يعيش في برج عالٍ من السلطة المطلقة، يراقبنا جميعاً من فوق، مقتنعاً أنّ بقاءنا على قيد الحياة داخل المجموعة نعمة من نعمه علينا!
كل بضعة أيام، يرسل إلينا منشوراً طويلاً مملّاً من فصيلة :"لو لم أكن هنا، لما كانت هذه المجموعة بهذا التنظيم؟! أنا الذي أحذف الرسائل غير المهمة، أنا الذي أضبط الفوضى، أنا الذي أتحمّل مسؤولية اختيار الصورة الرمزية المناسبة. قليلٌ من التقدير يا جماعة!". وبعد كل هذا المنّ والتفاخر، يأتي تهديده التقليديّ: "إذا استمرّ الوضع بهذا الشكل، فسأغلق المجموعة!" نعم، بالطبع، أيها السلطان المبجّل، فليُغلق واتساب نفسه على شرفك! فقط أعطنا مهلة لنقيم لك تمثالاً رقمياً قبل الصمت.
- دراما مغادرة المجموعة: أما مغادرة مجموعة واتساب فأمر أشدّ حساسية من التبرّؤ من العائلة، "فلان غادر المجموعة"، فجأة، الجميع يدخل في حالة من الذعر الجماعي: "لماذا غادر؟ هل ارتكبنا خطأ ما؟"، وينطلق مُنادٍ: "أعيدوه فورًا!!!". وفي لحظة هستيرية، يقوم أحدهم بإعادته قسراً، وهكذا يستمرّ الجحيم.
- المضطرب الليلي؟: إنه ذاك الإنسان الذي يبعث رسائل عند الثالثة فجراً، يحسب أن الجميع يعيشون في التوقيت الزمني نفسه لعالمه الموازي. يسأل "من شاهد الحلقة الأخيرة من المسلسل؟". (نحن نائمون!). ويسترسل "عروض خاصة على ماكينات القهوة في السوق". (من يهتم في الرابعة فجراً؟!). هو لا يؤمن بمفهوم النوم في أوان النوم، ولكنه يؤمن باللّه ولذا عندما لا يلقى جواباً من أحد، يبدأ بإرسال الترانيم الدينية الواحدة تلو الأخرى. آه كلّنا نشتهي أن نقول له "صلِّ بقلبك يا قلبي!".
بعد ساعات من الثرثرة غير الضرورية، والصور المكرّرة، والتسجيلات الصوتية التي تبدأ بـ "كيفك؟" وتنتهي بعد 8 دقائق بلا جواب واضح، ندرك الحقيقة المرّة: واتساب ليس وسيلة للتواصل، بل وسيلة مثالية لإضاعة الوقت بأناقة، تريد ترك المجموعة؟ مستحيل، فهذا يُعتبر خيانة إلكترونية! تريد كتم الإشعارات (Notifications)؟ فكرة جيّدة، لكن في النهاية، ستجد نفسك تتصفّح الرسائل بلا سبب. تريد حذف التطبيق؟ هاها، كم جميل أنك ما زلت تحلم. لأنك مهما حاولت الهروب ستعود، فواتساب مثل الثلاجة نفتحها كل خمس دقائق ونحن نعلم أنْ لا جديد بداخلها.