تراث منزله كعمره الذي قارب الـ 90 عاماً، يلقاك ببسمة ونشاط، تشعر أن أفكاره تسبقه، بذاكرة متوقّدة لم تترك تفصيلاً من الصغر حتى الكبر إلّا وحفظته، لا بل وأرشفته أيضاً.
هو مهندس من عائلة دينية معروفة في طرابلس، جاءت تسميتها من الشخص الذي يوقّت للصلاة "ميقاتي". يحمل هذا "الموسوعة المتنقلة" الجنسيتين اللبنانية والفرنسية وحائز شهادة الهندسة الميكانيكية والكهربائية عام 1970 من ESME باريس- فرنسا.
طفولة لامع بين العلم والأسرة
يحدّثنا ميقاتي عمّن بنى الجامع الكبير وهو السلطان خليل ابن السلطان قلاوون الذي أحضر معه مؤسّس عائلتنا وسلّمه توقيت الصلاة، من هنا جاءت تسمية الأسرة ميقاتي أي الذي يوقّت للصلاة، وكانت هنالك غرفة للشيخ اسمها "الخلوة الميقاتية" وهذه الخلوة باقية حتى اليوم وتتضمّن الأثر الشريف أي أننا نوقّت للصلوات في الجامع أباً عن جد يقول صاحب الـ 90 عاماً.
"كنت أعيش في بيت جدي في بناية سلطان في ساحة التل وهو من البيوت الأثرية، والدي درس في مدرسة الفرير حيث كان أوّل محامٍ طرابلسي يدرس في الجامعة اليسوعية وكان يرى أن الغرب يحمل أشياء تختلف عنّا فلمَ لا نتعلّمها؟ لذلك قام بوضعي في المدرسة ذاتها في طرابلس، وعارضه جدّي لكنّهما عادا واتّفقا، بعد أن وعده والدي بأن يحضر لي شيخاً يعلّمني الدين الإسلاميّ أيام العطلة.
كتاب ميقاتي المعنون بـ "من ساحة التل إلى الحي اللاتيني" يروي قصة مهندس سافر للعلم في فرنسا التي شحذت مداركه، ووسّعت آفاقه ليعود ويجمع جنى العمر من تجارب في كتاب يضمّ مقالاته لعدة سنين من العمر.
يروي المهندس لامع في كتابه عن بداية سفره إلى فرنسا سنة 1956- 1957، ويرسم لنا مشاهد هذه الفترة التي لم يكن فيها التلفزيون قد ظهر بعد، لذلك يقول ميقاتي:
"عندما وصلت، كانت فرنسا قد خرجت حديثاً من الحرب وكان هنالك فقر لكنه يعتبر مقبولاً وكانت هناك أزمة سكن رهيبة وعلى الرغم من أن باريس كانت "متحفاً حياً" حيث بناها نابليون الثالث من الحجر، ولكن عدد سكّانها عندما تمّ بناؤها يختلف عن عددهم لمّا وصلت إليها.
لامع في الحيّ اللاتينيّ
يتناول ميقاتي في كتابه أنه "من حسن حظي أنني وجدت غرفة في الحي اللاتيني حيث كانت أهم جامعات أوروبا موجودة في ذلك الحي مثل جامعة "السوربون" و "البولي تكنيك" وكبرى الجامعات التي خرج منها فلاسفة أمثال سارتر، كانت متواجدة في ذلك الحي وسمّي بذلك الاسم لأنه في القديم كان يتمّ تعليم الطلاب باللغة اللاتينية فانطبق هذا الاسم على ذلك الحي الذي يضمّ أهمّ دور النشر".
تلمع عينا الرجل الكبير "ميقاتي" عندما يذكر أن من بين المفكرين والمثقفين الذين استمع إليهم سارتر الذي كان يجلس في مطعم جزائري أثناء تعليمه الطلاب في الحي اللاتيني "كنت أستمع إليه، وربّما من عظمة فرنسا أنه عاش حراً محترماً رغم اختلاف الكثيرين معه بسبب فكره".
يذكر ميقاتي أن التفكير السائد في فرنسا هو الفكر الماركسي، حيث كان الحزب الشيوعي يشكل 30% من عدد السكان وكانت فرنسا من أكثر البلدان حيازة على جوائز نوبل للآداب والفلسفة، في حين كنت أنا قادماً من برجوازية طرابلسية ليبرالية.
الحفاظ على الآثار في فرنسا وطرابلس
في أول مقال له عام 2002، روى المحبّ لطرابلس عمّا آلمه من حفاظ البلد المحتضن فرنسا على آثاره وإعادة ترميمها، وبين ما شاهده في طرابلس في إحدى زياراته لها.
ففي أحد الجوامع في طرابلس عام 2002 شاهد المحبّ للمدينة أحد العمّال يقف على سلّم خشبي يحفر حفرة في الزخرفات والزينات على مدخل جامع "القرطاوي" في السوق لأنه أراد أن يدخل منها سلكاً كهربائياً ليضع لمبة واحدة بدلاً من أن يستخدم فانوساً لذلك.
لامع وبحسب تعبيره الذي أسمعني إياه "جنّ جنونه" فأمسك بالسلّم والرجل وهزّه من "توبيخة" ليتراجع عن فعلته، وكإنسان يغير على المدينة كان ذلك المشهد مؤلماً بالنسبة له حيث زار رئيس تحرير جريدة "التمدن" فواز السنكري وشرح له ما يزعجه... وهنا بدأ أول خيوط مقالات لامع ميقاتي تحت توقيع "مواطن طرابلسي عتيق".
يتضمّن الكتاب الواقع في 704 صفحات عدة فصول تروي تجربة ابن الـ 90 عاماً بين طرابلس وفرنسا طرق بها عدة أبواب منها الغيرة على المدينة، والعروبة، والفلسفة وأهمية المجتمع المدني وتحدث فيها عن شخصيات تشبهه بحبها لطرابلس.