زيزي إسطفان

"موت ولا تحتار حرقنا الأسعار"

إحجز تابوتك قبل نفاد الكمية

29 أيلول 2020

02 : 00

نفض الغبار عن الصناديق ( تصوير فضل عيتاني)
عزيزي المواطن اذا كنت تشعر انك تكاد تموت فقعاً وقهراً وقرفاً من هذا البلد وما آلت إليه حاله، او تشعر ان سياسيينا يحفرون قبرك ويقودونك نحو الهلاك بأيديهم، فالفرصة متاحة أمامك اليوم للاستفادة من عروضات قد لا تتكرر ومن تحطيم أسعار يجعلك تموت راضياً مطمئن البال، بأنك أخيراً استطعت ان تتحدى الدولار وغلاء الاسعار وأنك اقتنصت فرصة لا تعوض، قد لا تتاح لسواك لتنعم بواسطتها بآخرة فاخرة يحسدك عليها كثيرون.


لمسات أخيرة




قد تتساءل عزيزي المواطن ما الداعي لجلب سيرة الموت الآن في خضم محاولاتنا البائسة للخروج من إحباطنا وهزائمنا وبحثنا عن بصيص ضوء تعدنا به الأم الحنون؟ القصة وما فيها أن الفرصة سانحة امامنا جميعاً نحن الذين نتكوّى على نار الموت البطيء ان نستفيد من سحق أسعار على التوابيت الخشبية، التي ستضمنا حين يضمحل كل شيء من حولنا ويموت الجسد بعد ان ماتت الأحلام والآمال. نعم تحطيم اسعار في عرض مغر لا مثيل له أطلقته مؤسسة عازار للوفيات في زحلة، وقامت بتنزيلات كبيرة على الصناديق الخشبية لتتيح للجميع الحصول على صندوق العمر الضائع بأنسب الأسعار.


الإعلان المثير للإهتمام



أسعار تشجيعية

هل هي تصفية نهاية الموسم؟ موسم الموت المجاني والقتل الجماعي؟ ام هو أوكازيون لتصريف بضاعة بات يصعب على المشترين اقتناءها رغم الحاجة الملحة إليها؟ الجواب عند جوزيف عازار صاحب مؤسسة عازار للوفيات الذي لم يجد حرجاً من نشر خبر على صفحته الخاصة على فيسبوك، يعلن فيه عن حرق اسعار الصناديق (وهي الإسم التقني للنعوش او التوابيت) وبيعها بالـ"رسمال" بدءاً من 800000 ليرة لبنانية للسطح العادي وصولاً الى 1،500،000 للذي يحمل رسم العشاء السري، مروراً بـ 1،200،000 لرأس المسيح او رأس العذراء... تشكيلة واسعة من الصناديق مع صورها يعرضها عازار على صفحته في حملة تسويقية اثارت الكثير من التعليقات الساخرة كما الشاجبة كان أبرزها "مع عازار موت وما تحتار، ما تخاف من الغلا، حرقنا الأسعار". كثر سألوا بسخرية إن كان بالإمكان حجز الصندوق اليوم ودفع ثمنه الآن في انتظار حلول الساعة، أو إذا كان من الأفضل ان يموت المرء قبل انتهاء العرض وتساءلوا حتى متى يبقى العرض قائماً لمعرفة كم لديهم من وقت للإفادة منه.

الموت حق، يقول عازار، وكلنا على هذا الدرب سائرون، صحيح ان الإعلان كان صادماً بعض الشيء لكنه اخذ ضجة كبيرة، والهدف منه كان إنسانياً بحتاً. ويشرح عازار ان أحد اصدقائه يملك كمية كبيرة من الخشب أراد بيعها بداعي السفر، فحصل هو عليها بسعر مناسب جداً واراد أن يعمم الخير على الجميع فلا يستفيد منه وحده بأنانية وطمع. لجأ الى تحويل الخشب صناديق بمساعدة نجار يتعامل معه عادة واستطاع بذلك توفير الكثير من كلفتها وبيعها بأسعار مخفّضة. نسأله هل حجز أحدهم منها مسبقاً ليستفيد من العرض؟ يضحك قائلاً: لا أحد "يتموّن" صناديق في لبنان لكن في أميركا حيث يعمل أخي في المصلحة نفسها، يتهافت الناس ما إن تجري محلات دفن الموتى او السوبر ماركت عرضاً خاصاً على حجز التوابيت ودفع ثمنها ليضعوها في المستودع، تخطيطاً لدفن قد لا يتواجد فيه إلا صاحبه في غياب "اللمة" العائلية التي تميزنا في لبنان.

عالم خاص ( تصوير فضل عيتاني)



مَوتُ اللبناني بـ"اللبناني"

ولكن إذا كانت الأسعار المذكورة على الصفحة أسعاراً محروقة فكم تبلغ الكلفة الحقيقية للصناديق؟ الكلفة تتوقف على نوعية الصندوق وما إذا كان محلياً أو مستورداً. فالمستورد بحسب السيد متري الفلوطي صاحب أقدم وأشهر مؤسسة لدفن الموتى في بيروت يأتي من كندا أو إيطاليا، وسعره بالدولار يتراوح بين 3500 و 6000 دولار للصندوق الواحد، لكن هذا النوع من الصناديق صار "لوكس" قلة من المقتدرين يمكنها تحمل كلفته بالعملة الصعبة، لذا يقول الفلوطي لم نعد نشحن صناديق حالياً من الخارج لعدم قدرتنا على الدفع بالدولار ونحاول تصريف ما عندنا. هل تسعر الصناديق بالليرة ام بالدولار نسأل وكيف يدفع الناس ثمنها وكلفة الدفن ككل؟ لا شك أن الثمن بات بالليرة اللبنانية ولكن وفق سعر الدولار بالسوق السوداء، فالموت ليس مدعوماً من مصرف لبنان رغم إنه اكثر السلع إلحاحاً على ما يبدو. لكن الفلوطي وتحسساً منه مع الناس يقيس وضع الزبون ويحتسب الدولار ما بين 2500 او 4000 ليرة حسب قدرة هذا الأخير المادية. لكنه قادر على تأمين كافة لوازم الدفن للفقير بمبلغ لا يتخطى 150$ أي ما يعادل 1,750,000 وصولاً حتى 2,500,000. كل اللوازم ارتفع سعرها ولا سيما الصناديق والورق المستخدم في "أوراق النعوة" والباقات والأكاليل التي ارتفع فيها سعر الأزهار والإسفنج والحشائش.


في مؤسسة الفلوطي ـ الأشرفية ( تصوير فضل عيتاني)



المستورد نزل عن الرف

نعود الى عازار لنسأله عن سوق الصناديق المستوردة في زحلة، علّهم هناك ما زالوا متمسكين بتقاليد الدفن ومستوياته. فيؤكد ان "سوق المحلي أقوى من سوق الأجنبي" وأن الصناديق المستوردة قد "نزلت عن الرف" ولم يعد أحد يشتريها، ولا سيما وأنه لا يخفض من سعرها مطلقاً نظراً لكلفتها العالية ومصاريف شحنها وجمركها ولا يبيعها إلا بالدولار، "باللبناني ما بتوفّي معه"، ولا يمكنه استيراد غيرها في بلد يمكن ان يصل فيه الدولار الى 50000 ليرة. ألا يشتريها اغنياء المنطقة؟ "يلي معه مصاري ما بيموت"، يقول عازار، "والدليل على ذلك كل السياسيين في لبنان...".

كلفة الدفن والتعازي صارت لا شك مرتفعة جداً فكل اللوازم ارتفعت اسعارها بشكل جنوني. القهوة، الماء، السندويشات، المشروبات الغازية، المحارم الورقية وما الى ذلك من مستلزمات تضاعفت اسعارها مرات عدة، وبات أهل الفقيد يفتشون عن وسائل للتوفير والاقتصاد ما فكروا يوماً ببلوغها. فالدفن، بحسب عازار، بات أخيراً اشبه بالزفاف لما يتضمنه من "عنطزة"، بحسب قوله، او مبالغة حسب قولنا: نشر ستاندات الأزهار الكبيرة المكلفة، تسيير أربع او خمس سيارات سوداء خلف الفقيد، اعتماد اشهر المطاعم لتأمين "لقمة الرحمة" وما الى ذلك من مظاهر بذخ وترف.



الوداع الأخير


في السنة المنصرمة يؤكد عازار انه التزم دفناً تجاوزت كلفته 18000 دولار على تسعيرة 1500، اما اليوم فدفن مماثل قد تتخطى كلفته 150 مليون ليرة... لكن مع تنامي أزمة الليرة تبدل الأمر وتغيّرت الحال وبات الاختصار والتوفير سيّدَي الموقف. السندويشات تُلف في البيت ومياه الشرب من الغالونات البلاستيكية الكبيرة والتعازي ليوم واحد فقط، اما أوراق النعوة فيلصقها اهل الفقيد وأصدقاؤه بأنفسهم على الأعمدة والجدران ومداخل البنايات... ولأن المصائب يمكن ان تأتي بالخير احياناً فإن ازمة كورونا وفرت على الناس الكثير من مصاريف الدفن، والعزاء الذي بات يقتصر على يوم واحد وعدد مختصر جداً من المشاركين فكأن الله سبحانه وتعالى "يضرب بيد ويستلقي باليد الأخرى".

على الرغم من كل التخفيضات والعروضات ما زال هناك الكثير من الفقراء المعدمين الذين لا يستطيعون تحمل كلفة فقدان حبيب او قريب وأعدادهم الى تزايد مضطرد، فماذا يفعل هؤلاء وكيف يدفنون موتاهم؟ العالم لا يزال بألف، خير يقول عازار والفلوطي. فمن لم يكن قادراً على تحمل تكاليف الدفن يجد دائماً من يقف الى جانبه من رجال دين و"أولاد حلال" ومؤسسة دفن الموتى. الكل يتساعد ويقدم خدماته مجاناً، والعونة معروفة في لبنان، شرط ان تكون العائلة محتاجة حقاً والفقيد معدم. فإكرام الميت دفنه، كما يقال، ولا يمكن ان يُترك أحد من دون تأمين دفن لائق ولو بأدنى مستوياته. ولعل بادرة عازار قد تفتح الباب للجمعيات الخيرية الكثيرة العاملة اليوم في بيروت لمطالبة الجهات المانحة بإرسال الأخشاب للصناديق بدل الألمنيوم والزجاج لترميم البيوت.