د. فادي كرم

الصراع الحقيقي المستمر

تتعدّد العوامل السلبية التي تتداخل لتؤثّر على الوضع الوطني اللبناني وتتضارب بين بعضها البعض لتتشابك ويُصبح من الصعب فكفكتها، ممّا يُصعّب مهمات الدخول في مقاربات صحيحة وسليمة لحل المسائل العالقة بين الأطراف المتناقضة والمتصارعة، وأكثر العوامل سلبيةً يتمثّل بمحاولات التجهيل للأسباب الحقيقية لهذا الصراع المستمر منذ أكثر من خمسين سنة والذي أودى بلبنان الوطن إلى حد خطر الزوال.


وأكثر من يستفيد من هذا الخلط هي الجهة السياسية المناهضة للوجود اللبناني، والتي حوّلت لبنان على مدى السنوات الخمسين الماضية إلى منصات تستخدمها مراجعها الإقليمية، وآخر فصول هذه المؤامرة، كان الجدال الذي حصل حول مسألة تأليف حكومة القاضي نواف سلام، حيث ضُخّ في الإعلام الكثير من التسريبات المغلوطة بهدف إخفاء حقيقة المواجهة التي دارت حول هذا التأليف، والقاضية بتحديد هوية لبنان السياسي والثقافي للأجيال القادمة والدور الذي سيضطلع به هذا البلد في المنطقة العربية وفي هذه القرية العالمية.


فالخطيئة الكبرى التي قد يقترفها البعض من الآتين من خارج المحورين اللبنانيين المتصارعين هو السقوط في فخ التسويف للقضية الأساسية والصراع الحقيقي، فالحكومة الجديدة التي انتظرها اللبنانيون، بعد انتخابات لرئيس جمهورية شكّلت انقلاباً على المرحلة السابقة وتسمية لرئيس حكومة من خارج طقم المرحلة السابقة أيضاً، هي الحكومة القادرة على نقل الوضع الوطني من حالة الفوضى والتحاصص التي استشرس محور الدويلة للإبقاء عليها إلى حالة الدولة المسؤولة عن أبنائها ومواطنيها.


فالصراع الحقيقي البارحة واليوم وغداً هو صراع بين من يسعى لتثبيت المسار السابق من تحالف الدويلة مع الفاسدين وبين من يجهد لإطلاق المسار الجديد الملتزم بعناوين خطاب القسم الذي رسم الطريق أمام أي سلطة لبناء دولة كاملة السيادة يحترمها المجتمع الدولي ويتعاطى معها كبالغة وكاملة السيادة، وليست سلطة تنتظر الإرشادات من الخارج.


يُظلم الكثير من المسؤولين اللبنانيين الوسطيين أو غير المنتمين لأحد طرفَي الصراع بتحميلهم مهمة حلّ العقد الحقيقية المتوارثة، فهؤلاء القادمون من عالم الأعمال والاستثمارات والأموال والعالم الأكاديمي والقضائي الدولي وغيرها من مجالات التكنوقراط المتطورة والموصوفون بالكفاءات العالية، تُعقد عليهم آمال كبيرة لحل الأزمات اللبنانية، ولكن بطبيعة عملهم واختصاصاتهم يذهبون إلى معالجة العوارض الجانبية للصراع الحقيقي، وبموافقتهم هم على الرهان عليهم، يظلمون أنفسهم كونهم يقبلون بحمل أثقال مصيرية على أكتافهم وعقد لا إمكانية لهم على حلّها أو اقتراح حلول لها أو حتى النظر في أسبابها، إلا بعدم إغفال القضية الأساسية، وإن اختاروا التهرّب من الاعتراف بأسباب الصراع فذلك يؤدّي إلى تأزيم الأوضاع، وإن فضلوا التوجّه فقط نحو اهتماماتهم من قضايا من صلب مفاهيمهم المُكتسبة من أجواء الأحزاب الليبرالية العالمية "liberalism" والبعيدة كل البعد عن عمق الصراع اللبناني والأزمات اللبنانية، فذلك يُبعدهم أكثر عن الواقع اللبناني ويُغرقهم من البدء في رهانات فاشلة.


صحيح أن الأوضاع الوطنية والإقليمية المُستجدّة تشي بأن محور المُمانعة الذي عبثَ طويلاً بدول المنطقة وشعوبها ذاهب إلى الانحسار ثم الزوال ولكن طالما ما زالت هناك إيديولوجيات متزمتة تعمل على استغلال الشعوب، وطالما أن أوضاع الدول لم تستقر بعد، فما زالت إذاً هناك أخطار وجودية ناتجة عن الصراعات الحقيقية.



وكما يُظلم هؤلاء بتسليمهم زمام الأمور، يظلمون هم بدورهم الشعب اللبناني المناضل لأجل حرّيته وكرامته، كونهم يُميّعون ثوراته وانتفاضاته ضد المشاريع الغريبة الغازية، برهاناتهم التي لا تحسم ولا توصل لشاطئ الأمان، مما يسمح بطبيعة الحال لهذه المشاريع للاستمرار بخطواتها لتجديد قوتها ولربح الوقت اللازم لتدعيم مداميك عودتها إلى السلطة.



يأتي هؤلاء إلى الحكم في لبنان غير معترفين بأهمية الصراع الحقيقي بين اللبنانيين، متباهين بأفكارهم المتحرّرة ومستخفّين بالانتماءات التقليدية اللبنانية الطائفية والحزبية والإيديولوجية، فيرمون الصراع الحقيقي جانباً متأملين أن بتجاهلهم له يستطيعون القضاء عليه، وآخر بدع هذا الفريق المتعالي على الأحزاب اللبنانية، بدعة عدم توزير حزبيين، والمساواة بين كافة الأحزاب، واعتبار كل الحزبيين ينتمون لجهة واحدة، اسمها أحزاب، علماً أن هناك أحزاب إيديولوجية تابعة لمشاريع غريبة عن الوطن وهناك أحزاب مناضلة لأجل بقاء لبنان.


إن معالجة القضايا الروتينية لشؤون الدولة والمجتمع التي لا تأخذ بالحسبان الصراع الحقيقي، مصيرها دائماً الفشل، وضررها المجتمعي مؤكّد، وتضييعها فرص بناء الدولة حتمي. فالصراع الحقيقي في لبنان هو ليس الصراع التقليدي على الحصص ولا على بعض الاقتراحات والمشاريع، وليس الخلاف على نوعية الضرائب والتقديمات الاجتماعية، بل هو صراع على هوية لبنان، وكل من يلعب في الوسط، فهو إمّا جاهل أو قاصر، ويجب عليه حسم أمره والاصطفاف إمّا مع الجهة المقوّضة للدولة أو مع الجهة العاملة لبناء الدولة، وإمّا مغادرة الساحة السياسية لأنها ساحة مليئة بالمعارك المصيرية، والطرف السيادي الذي خاض معارك متعدّدة منذ أكثر من خمسين سنة، لن يتردّد الآن ودائماً عن الوقوف بوجه مشاريع إعادة لبنان إلى مسار التخلّف، فساحة المعارك لا تحتمل المتخاذلين من جهة والمتعالين على الصراع الحقيقي من جهة أخرى.