نوال نصر

حين يُحرّف الإنجيل ويُقدّس البشر

بين الست بربارة وجامع شمع وزقزقات مصطفى بيرم

نعم. ها نحن ندخل جميعاً زمن الصوم، مسلمين ومسيحيين، موارنة وأرثوذكس وسنّة وشيعة. فهل في هذا تعايش؟ لا، لن نتكلم عن "تعايش" بل عن العيش المشترك تحت سماء الـ 10452 كيلومتراً مربعاً. تحت سماء لبناننا. ولأن في زمن الصوم صلاة وصدقاً، نعم صدقاً، فلنطرح سؤالاً صادقاً يلحّ على كثيرين في هذه الأيام: هل يجوز أن تحرّف الآيات أكانت قرآنية أم من الإنجيل، وترمى على قياس أشخاص ومناسبات؟ هل يجوز أن نقول إجتزاءً: "لا إله إلا الله"... أو "من ضربك على خدك الأيسر"... ونقطة على السطر؟ نعم، هذا ما يتكرر في أحيانٍ كثيرة. هناك من يُلقي نصف آيات، يميناً ويساراً، لغاية في نفس يعقوب. وهناك من يلقي صفة القديس على بشر ما فيولّع بشراً ويؤسس لخلافات وأخذٍ وردٍ وتناحرٍ ليس في وقته. لا، ليس كل قائدٍ قديساً حتى لو "عبدته" جماعته. وليست الآية الدينية على قياس شخص أو مناسبة أو تظاهرة أو تشييع. وماذا بعد؟



ها هو مصطفى بيرم، وزير العمل السابق، يبرم ويدور ويجول في الآونة الأخيرة بين آيات من الإنجيل المقدس، ساكباً إياها في منظورٍ ضيّق يريده فيُشعل خلافاً غير مستحبّ بين مؤمنين. ها هو يضع صورة طفل حاملاً صورة السيد حسن نصرالله مستعيناً بعبارة قالها يسوع المسيح: "دعوا الأطفال يأتون إليّ" غافلاً عن أن يزيد "لأن لهؤلاء ملكوت السماوات". الأطفال أبرياء لا يفقهون، أو يفترض أن لا ندعهم يفقهون الحالات السياسية والحزبية المتناقضة، وأن لا نقحمهم في مزايدات ضيقة. فلماذا فعل ذلك؟ كيف له أن يستخدم نصف آية؟ وهذه ليست أول مرة يفعل ذلك. هو كتب قبل حين "كل أبواب الجحيم لن تقوى علينا" غامزاً من قناة أحداث غزة. وهو من سبق وكتب "أيتها الحيات أولاد الأفاعي كيف تفلتون من عقاب جهنم". ويكمل ليقول "من ثمارهم تعرفونهم" وعاد وكتب من إنجيل لوقا إصحاح 11 "حينما يحفظ القوي داره متسلحاً تكون أمواله في أمان" مجتزأ المعنى مسخراً إياه لأهدافه غافلاً الآية المتممة "ولكن متى جاء من هو أقوى منه فإنه يغلبه، وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه". مصطفى بيرم يقحم الإنجيل في مآربه. وهو ليس الوحيد في ما يفعل.



واحدة من تغريدات مصطفى بيرم



يوم ينتهي عيسى ينتهي السلاح

قبل حين قال علي عمار "سلاحنا باق باق باق وحينما ينتهي عيسى ينتهي "حزب الله"... وحينما ينتهي الإنجيل ينتهي حزب الله..." هو أقحم الإنجيل والمسيح في سلاحٍ مرفوض أصلاً من المسيحيين والكثير الكثير من أهل البلد. والبارحة، قبل يومين أو ثلاثة، أطل فادي بودية ليقول: "السيد فوق القداسة ويكاد يوازي الحسين والمسيح". وقبله أطل وزير الثقافة محمد مرتضى مستشهداً بآيات من إنجيل متى "يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المؤمنين هوذا بيتكم يترك لكم خراباً". وها هو سالم زهران يكتب "مرتا مرتا إنك تهتمين بأمور كثيرة وتضطربين إنما المطلوب واحد". جميلٌ أن يستعين كل هؤلاء بأبياتٍ من الإنجيل المقدس إنما المستغرب سكب تلك الآيات إجتزاءً في حساباتٍ جد ضيقة فهذه مصيبة.


سماحة القديس. قرأناها في الأيام الماضية مراراً. والمسيحيون لم ينسوا تلك الصورة التي رفعت قبل أعوام في لاسا لقادة من "حزب الله" مذيلة بعبارة: المسيح عليه السلام نصير المستضعفين. صورة استفزّت المسيحيين في وقتٍ كان الاستقواء في أوجه بسبب استباحة أرضهم من "الحزب" نفسه. فهل يحقّ لهؤلاء دائماً ما لا يحق لسواهم؟


الأب نيكولا رياشي، مرشد عام عائلة قلب يسوع في لبنان، يقول "كلام الإنجيل مقدس، مثل كلام القرآن، ولا يجوز التحريف. في كلِ حال فلنقل إلى من يحرصون على استخدام الآيات: هنيئاً لكم لأنكم تستخدمون آيات الإنجيل لكن لا تستخدموها بغير وجهها الصحيح". يضيف "لا يجوز تحريف المعنى بحسب ذوق كل واحد، فيأخذ من الآية ما يريد ويهمل ما يريد. التفسير الكنسي واضح في هذا الإطار. وقائل الآية يجب أن يعيش معناها في حياته قبل أن يستخدمها. فهناك من قد يُحرّف ويقول من ضربك على خدك الأيمن أضربه على الأيسر. وهناك من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. أما نحن فنقول: لا إله إلا الله يسوع المسيح ابن الله".


القديس والقدوس


"كلمة القديس لا تجوز أن تعطى كلما شاء أحدهم. يمكن أن تستبدل بعبارة "مختار من الله" لا قديس. القداسة تستخدم مسيحياً لشخصٍ قُدّس بواسطة القدوس. القداسة تمرّ بمراحل وتتخللها أعاجيب وتمنح لشخصٍ مشهود لحياته اليومية وأقواله. كلمة قداسة مرتبطة بالقدوس، بالله، وليس كل من أحببناه نقول هو قديس ونمسح جثمانه ونتبارك منه. مفهوم القداسة كبير في إيماننا المسيحي". يضيف الأب رياشي "نحن، المسيحيين، لدينا الجهاد الروحي، أما المسلمون فلديهم الجهاد في سبيل الله. حتى مفهوم الصوم مختلف. نحن نراه الرجوع إلى الله والصدقة والصوم والصلاة والسلام الداخلي. إلهنا إله السلام".


فليستخدم كل من شاء الآيات المسيحية. وهنيئاً لكل من يفعل. شرط أن يستخدمها إيجاباً بلا تجزئة وتحريف وغايات مبطنة "فكلام الإنجيل مقدس. والقديس هو من تعلنه الكنيسة ولا يجوز إلقاء التسمية على أيٍ كان".

ما رأي الدين الإسلامي؟ هل يُسمح باجتزاء استخدام الآيات القرآنية؟ وهل مسموح ذلك في آيات الإنجيل المقدس؟



للشيخ خلدون عريمط رأيٌ يتلاقى كثيراً مع رأي الأب رياشي "الإنجيل هو للناس، لكلِ الناس، للمسيحيين وللمسلمين أيضاً، ولكل من آمن بالله وملائكته وكتبه. لكن لا يجوز مطلقاً تحريف كلام الله تعالى سواء ورد في القرآن أم في الإنجيل الذي أنزله الله أو التوراة. بالنسبة لنا، نحن لنا الاستشهاد بالقرآن الكريم وببقية الكتب التي أنزلها الله. يجب أن تنزل الآيات لما فيه من فائدة". لكن، ماذا عن تسمية بعض البشر بالقديسين؟ يجيب "هذا المصطلح، مصطلح القديس، ليس موجوداً لدينا كمسلمين. هناك الرجل الصالح المؤمن. القديس مصطلح يستخدمه المسيحيون فيقال القديس شربل والقديس مارون. أما نحن فنقول المؤمن الصالح النقي الورع. استخدام مصطلح القديس على مسلم في غير مكانه".


ملك الناس بلا تحريف

ماذا عن تحريف الآيات؟ يجيب عريمط "الآيات القرآنية ليست ملك المسلمين والله سبحانه قال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. الخطاب المسلم لكل الناس والقرآن يخاطب الإنسان كل إنسان: يا أيها الناس. وعندما تأتي مجموعة، أو فئة من اللبنانيين، وتستشهد بآية لها ذلك المهم ألا تُحرّف الآية. تشخيص الآية وكأنها مخصصة لفلان أو علتان غير جائز شرعاً. الآية، بما خصصت له، ملك الناس. خطاب الله دائماً للناس، لكل الناس، وإن كانت هناك آيات نزلت على أبي بكر الصديق (على سبيل المثال) مخصصة لزمان معين ولشخص معين، لإرشاد الناس وعودة الإنسان إلى جادة الصواب. أنزلت الآيات لتصحيح مسيرة الإنسان. فحين خلق الإنسان قال لملائكته: إني جاعل في الأرض خليفة، إن الإنسان خليفته. فحين ينحرف عن جادة الصواب تأتي الآيات والكتب السماوية لتصحيح المسار. هذا شرط أن لا تستخدم لشخص معين أو لفئة معينة بل لهداية الناس".

نترك الشيخ خلدون عريمط يستعد للصيام المبارك. ونكرر على من يستخدمون آيات الإنجيل: هنيئاً لكم. لكن، لا تحرفوها أو تجتزئوا ما تستخدمون لغاياتكم.



ماذا في علم النفس؟

تقول الاختصاصية في علم النفس ربى بشارة عن من يستخدمون آيات الإنجيل بغير معناها "استخدام هذه الآيات دليل إلى نقص إما في الثقافة أو غاية ما كامنة. ما حصل هنا، بعد وفاة السيد حسن نصرالله، أن جماعته ما زالوا في مرحلة الإنكار. أدمغتهم ما زالت ترفض فكرة أنه ما عاد موجوداً. ويصرون على تأليهه وتقديسه. هم يحاولون إشعار أنفسهم بأمانٍ من خلال تصويره كأب، مثل يسوع المسيح الأب، فيكثرون من سطحية تناول مصطلحات يريدون أن يستمدوا منها أماناً مفقوداً. وهم في قرارتهم غير مقتنعين بما يقولون (مثلما قال بودية السيد فوق القداسة). ما نسمعه ضعف في المفاهيم. إنهم يستخدمون الآيات من الإنجيل كما يحلو لهم والخوف من أن يصبح الانحراف الحقيقة التي تلغي تدريجياً مفهوم الآية الحقيقي وصولاً الى إلغاء مفاهيم في الديانة المسيحية. هذا ما فعلوه في الأعياد المجيدة. إنهم يحتفلون بشجرة الميلاد وتقاليد الأعياد المسيحية وينسبونها لهم. عيد الأضحى للمسلمين وللمسيحيين أيضاً "المسيح هو فادينا ومخلصنا. وابراهيم أخذ اسحاق للتضحية به. غير أن المسلمين يعتقدون أنه أخذ إسماعيل الإسماعيلي للتضحية به". المسلمون باتوا عبر التاريخ يعتبرون العيد لهم. تحوير الآيات قد يجعل جماعة تلغي جماعة. والمسيحي يبدو مهزوماً نفسياً. هو بنى لبنان الكبير وضحى من أجله واليوم يشعر أنه مهزوم".

المسيحي يرى استباحة آيات الإنجيل والهوية أيضاً وينتفض. هو لا يريد أن يهزم. ولهذا المسيحي الثابت يجب أن لا يسمح باستباحة آيات الإنجيل ورمي القداسة يميناً ويساراً.




الست بربارة وجامع شمع

ماذا بعد؟ ماذا يقول الأب غابي أبي سمرا عن كل ما يدور ويشتدّ في الآونة الأخيرة؟

يرى الأب أبي سمرا "أن هناك تقليداً معتمداً لدى بعض من هم في الطائفة الشيعية يرتكز على نسب الأمور لهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فها هو عيد القديسة بربارة في بعلبك، يرتدي فيه الناس اللون الأبيض، ويقولون هو "عيد الست بربارة"، مثلما فعلوا مع الست خولة التي بنوا لها مقاماً في بعلبك. إنهم يأخذون من الدين المسيحي وينسبونه لهم. خذوا مثلاً كنيسة شمع (كنيسة شمعون الصفا) التي تحولت إلى جامع الشمع".


لهذا كله، يراقب المؤمنون المسيحيون استعارة البعض آيات من الإنجيل لأهدافٍ خاصة بهم بكثير من القلق. لكن ألا يتشارك بعض المسيحيين في التحوير؟ لم ينس كثيرون يوم نشر نبيل نقولا (نائب التيار العوني سابقاً) صورة ميشال عون في قلب مريم (مكان المسيح) محاطاً بهالة. ولم ينس أيضاً كثيرون يوم شبه العماد ميشال عون ذكرى عاشوراء بأسبوع آلام السيد المسيح وهذا ما دفع بالكنيسة، وتحديداً بالبطريرك بشارة الراعي وكان يومها مطران أبرشية جبيل المارونية إلى الردّ "هذا الربط في غير محله. آلام المسيح وموته هي لفداء الجنس البشري. ولا يجوز الربط بين الانتماء الديني والشأن السياسي لأن مثل هذا الربط تسييس للدين، مرفوض".


نعم، لا يجوز تسييس الدين. بعيداً قليلاً عن لبنان، لم ينس كثيرون يوم قال رئيس المجلس الأكليريكي للكنيسة الأرثوذكسية الأنبا بولا "رأينا المسيح عند مجيء السيسي للكنيسة". وتبعه كاهن كنيسة الأزبكية الكبرى الأنبا مكاري يونان قائلاً "السيسي مرسل من السماء ومذكور في الإنجيل". هذا حكمٌ على الأقليات المسيحية في الشرق؟ هل يراد القبول بأننا أقلية مستباحة؟ لا، المسيحيون في لبنان، في زمن الصوم الآتي، يعلنونها مجدداً: لا للتبعية ولا للقبول خانعين بما يرونه خطأ حتى من مسيحيين تابعين.


هو الصوم الكبير يبدأ الإثنين عند المسيحيين جميعاً. وهو الصوم عند المسلمين يبدأ اليوم. سنصوم معاً. على أمل أن يعرف الجميع جدوى الصيام عن الاستهتار بالآيات وجدوى التمنع عن منح الألقاب يمنة ويسرة لغيرِ مستحقيها. فليس كلّ زعيم قديساً. وممنوع تحريف الآيات إذا كانوا يريدون لبنان... لبنان.