مريم مجدولين لحام

هذه قصتي

"فقاعة فايسبوك" وإدمان التواصل

3 تشرين الأول 2020

02 : 00

أظن أحياناً أنني من الحالات الأولى والفئات الهشة التي أصيبت بفيروس "وسائل التواصل الإجتماعي" في لبنان، وحتى الساعة ليس لدي تصوّر واضح لما يجري معي، أو لمآل هذه الجائحة التي تضرب كل محيطي عبر "وسائط اجتماعية" تقف افتراضياً في منتصف الحوار الفعّال بيننا وبين الآخر.

في البدء، كان التصور السائد أن الأمر يتعلق بإعادة العلاقات مع "الأصدقاء القدامى" ليس أكثر. بعدها كوّنتُ كغيري، أصدقاء افتراضيين كُثراً، لا أعرفهم حقيقة، لكن أعرف عنهم ويعرفون عني الكثير. كان منهم من التقيته بعد "كبسة زر الإضافة" صدفة في شوارع الإنتفاضات الكثيرة، ومنهم من التقيته في لقاء خاص، أو عبر طبيعة عملي كصحافية، منهم من تخطت صداقتي بهم زيف الإفتراضي وتطورت إلى علاقة فعلية وطيدة... ومنهم من لم التقِيه حتى الساعة، لكن نتحدث في كل شيء، وعن كل شيء عبر المنشورات أو التعليقات أو الرسائل الخاصة!

تحوّل هذا النمو السرطاني لوسائل التواصل الاجتماعي في حياتي إلى علاقة حب مؤذية تجلدني ببطء، تقتل طاقاتي، تحارب إبداعي، تفقدني روحي وتربطني بالوسادة وحائط غرفتي، تفقدني الإنتاجية في عملي، تبدّد وقتي الثمين على ترهات وأشياء سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع... بل وتهدّد علاقتي بشريك حياتي الذي، بات يشعر أنني أمضي قسطاً كبيراً من حياتي متخبطة في دائرة إدمان فارغة ومضرة لي ولعلاقة حُبنا، الذي يفضل أن تكون "أوفلاين" و"خاصة" بنا وحدنا. أما أنا التي اعتدتُ تعميم حياتي، مُزقت بين حب حقيقي ألمسه، وبين كل ما عهدته قبل ذلك.

أذكر حين فارقتنا صديقتنا، التي يعرفها كثر "افتراضياً فقط" نادين جوني، أن هنالك من بكى كثيراً في مأتمها، رغم أنه لم يصادفها يوماً. وأعلم تماماً أنني في ما لو قضيت، سيبكيني بعض من يعرفني فقط من وراء شاشة. تماماً كمن أخبرني أبي أنهم في زمانه انتحروا بعد إعلان وفاة الفنان عبدالحليم حافظ في مصر لشدة تعلقهم به، بتنا أبطال شاشة مجانية تستنزفنا، وتعطينا شهرة في فقاعة... وتجعل منا متغطرسين، يظنون أنهم "عبدالحليم" فعلاً، رغم أن بعضنا، لا يقدم للعالم الا القليل والتافه والمثير للسخرية، حتى صارت وسائل الإعلام المحلية تستضيف "المؤثرين أو المؤثرات" المثيرين للمشاهدة والـ"رايتينغ"، وأضحى عنوان المرحلة "لا تجعلوا من الأغبياء مشاهير".

سيطر الفايسبوك وغيره من التطبيقات المجانية على مفاصل حياتي، سيطرة مطلقة حتى بت سجينة لسنوات خلف شاشة تشغلني لأكثر من 10 ساعات يومياً بين تطبيقاتها المتشابهة، وتهدر وقتي في تسكع إلكتروني، وتختطفه من أسرتي ومجتمعي وذاتي. وبالرغم من نجاحي في العمل وكثرة مشاركتي في الأنشطة الميدانية والمجتمعية، كنت بحاجة بشكل دائم إلى مشاركة كل ما أفعله مع "العالم أجمع" بلا حدود، وكتابة آرائي المثيرة للجدل من دون ضوابط أو مخاوف من أي تنمر أو إزعاج، حتى تهافت كمّ كبير من المهددين بالقتل أو الإغتصاب والمتصلين بي وبعائلتي، على خلفية رأي من هنا ومنشور من هناك.

ومع تطور نسق الإصابات بهذا النوع من الإدمان بين جميع أصدقائي، وبعد اطلاعي على تحذيرات عديدة بدأت مع طبيبي النفسي وانتهت مع وثائقي لنتفلكس بعنوان "معضلة مواقع التواصل"، قررت إغلاق "فايسبوك" والتوقف عن استخدام "انستا" والاعتماد على "تويتر" فقط، على الرغم من تحفظي بدعوى الآثار السلبية للقرار على "وجودي الإفتراضي" كصحافية تستنكر تكميم الأفواه.

أقفلت حساباتي واكتشفت أنني "وحيدة" جداً. ربما لا ينبغي عليّ تعميم تجربتي إلا أنني أكاد أجزم أننا غالباً ما نكون كأشخاص لدينا عدد كبير من المتابعين والأصدقاء، أكثرنا وحدةً في الحقيقة. نحن، الأكثر انشغالاً لسنا الأكثر إنتاجية رغم أننا نوصف بالناشطين، لسنا الأكثر تأثيراً على آراء الناس ولا الأكثر اطلاعاً. مفارقة ماكرة فاتتني، وتحدّ صعب لا يمكن لجيلنا مواجهته ما دام أغلبنا ما زال يعيش داخل هذه الفقاعة ضمن مجتمع حديث، سريع التغيير كثيف المعلومات، تهيمن عليه تقنيات الاتصال، ويتصارع فيه ذباب الكتروني مسيّس وموجّه نحو التضليل والإرباك والسيطرة. وفي اقتصاد المعلومات، قد نكون غارقين في محيط من الماء، لكننا نموت من العطش... نغرق في غوغل، لكن قلة منا يقرأ حقاً... نتبارى بين معلومات موثوقة وأخرى مفبركة في حرب سياسية على منصات الكترونية، أبطالها وجوه تتحكم بنا أيضاً في العالم الحقيقي!

بعدما أقفلت "الفايسبوك"، صرت أقل عرضة للأخبار الزائفة الكثيرة منخفضة الجودة والمنتشرة على نطاق واسع. عرفت أن إنتاج المعلومات مكلف، ولكن نشرها رخيص وعلى بُعد "تغريدة" أو "منشور" أو "واتساب". تأكدت أن شبكات الاتصال الحديثة قد خفضت تكلفة النشر بشكل كبير، لكن إنتاج معلومات موثوقة لا يزال مكلفاً. وأنني كصحافية، في جريدة ورقية، لدي المنبر الذي أحتاجه.

بالمحصلة، لا يزال طريق العدالة في كوكب الأرض، للناجين والناجيات من جرائم "هندسة الإدمان على وسائل التواصل الإجتماعي" بعيداً، يشتد ابتعاده كلما زاد اعتمادنا على التكنولوجيا. وعليه، وبالرغم من أنني أعلم أن الهدف الخفي للمنصات "المجانية" هو تحقيق الدخل من استخدامي للتطبيقات، اخترت تطبيقاً واحداً وأتجاهل البقية، وأخاف ساعة الإنتكاسة، التي تلي كل حرمان... ماذا عنكم؟


MISS 3