من مذكّرات غير السياسيّين، المهمّة، التي توثّق ما كانت تعيشه المدن والقرى البعيدة من العاصمة بيروت حيث مركز الأحداث السياسية التي كانت تنعكس تداعياتها على مجمل لبنان، تنشر "نداء الوطن" فصلاً من كتاب "كلفة العيش المشترك" الصادر عن "دار سائر المشرق"، وهو مذكّرات الخورأسقف يوحنا الحلو الذي لا يزال الصيداويّون يذكرونه باسم "أبونا حنا"، وخلّدوا ذكراه بتسمية أحد شوارع مدينة صيدا باسمه.
تغطي مذكّراته أحداثاً مهمّة عاشتها عاصمة الجنوب إبّان أحداث العامين 1958 و1969، فضلًا عن سنوات الحرب اللبنانية الطويلة، في منطقة شهدت أحداثاً ضخمة ليس أقلّها زلزال التهجير الذي ضربها ولم تشفَ منه بعد.
بينما كنت في السابع عشر من حزيران 1982، أي بعد دخول إسرائيل إلى صيدا بأيّام قليلة، أصلّي في الصالون حوالى الساعة الثالثة بعد الظهر دخل عليّ أربعة أشخاص، عرفت منهم إيلي عبّود أحد أبناء الرعيّة من "حيّ القناية" في صيدا، والرائد الفلسطيني صلاح التعمري، وسيّدة لم تعرّفني عن نفسها، ورابع هو كما ظهر من خلال الحديث مدير "الأونروا" في صيدا، وهو من التبعيّة الفلسطينيّة.
دخلوا إلى قاعة الاستقبال وراحوا يهدّئون من روع التعمري وهو في حالة اضطراب شديد وقد بدا جليّاً عليه من خلال الإكثار من التدخين، بحيث كان يأخذ مجّة من سيجارته ثمّ يطفئها ويولّع ثانية بلا وعي أو بوعي، لست أدري. والحديث كان يوجّه إليه من الحاضرين، وأنا أستمع لا أُبدي أيّة حركة. والكلمة الأولى الّتي وجّهها إليّ قال فيها "أبونا حلو، أنا قادم لأنام عندك الليلة، لأنّي ملاحق من الجيش الإسرائيلي منذ دخوله صيدا، ولقد اضطررت لأن أختبئ على مدى ليلتين في مجاري المياه تحت الأرض". أجبته "إنّ هذه الدار ليست ملكاً لي وليست هي بيتي، إنّما هي للكنيسة وأنا لا أستطيع أن أتحمّل فيها مسؤوليّتك أمام الجيش الإسرائيلي. إذاً إبحث عن طريقة أخرى أستطيع أن أؤدّي لك خدمة فيها". للحال قال "أنا أريد أن أسلّم نفسي للجيش الإسرائيلي عن يدك". استهجنت هذا الطلب وقلت "ما لي ولك وما لي ولهم، إذا كنت قد قرّرت القيام بذاك العمل فما عليك إلّا أن تذهب بنفسك وتسلّم أمرك إليهم". فلم يقبل وزاد اضطراباً وتململاً، إذّاك حاول القادمون الثلاثة تهدئته ثمّ غادرونا معاً من الصالون، وبقينا وحدنا أنا وهو. أمّا الخوري طانيوس فكان في غرفته بعيداً عمّا يجري. رحت وجئت مراراً وتكراراً في أرض القاعة، مضطرباً أفكّر بما يجب عليّ أن أعمل، وليس لديّ مَن أستشيره في حلّ هذه المشكلة الطارئة، الّتي ترك حلّها عليّ منفرداً. إذّاك قلت له "أنا ذاهب لأرى المسؤول في أقرب مركز للجيش الإسرائيلي. انتظرني حتّى أعود إليك".
عند الميجور مائير
رحت سيراً على الأقدام في شارع يخلو من المارّة إلّا من بعض سيّارات للجيش الإسرائيلي، والمركز الأقرب الّذي قصدته هو "نادي موظّفي التابلاين" على الشارع العام، وعلى بعد مائة وخمسين متراً تقريباً عن المطرانيّة. وكان سبت، وللسبت حرمته عند اليهود، وجدت البوّابة الحديديّة الخارجيّة مغلقة والجنود خارج الدار وداخلها. طلبت أن يفتحوا الباب، فرفضوا لأنّ اليوم سبت، ألححت قائلًا "إنّي أريد أن أجتمع إلى الرئيس المسؤول لأمر خطير". إذّاك فتحوا البوّابة، وأدخلوني إلى الفسحة الداخليّة من المركز، وتطلّعت شمالًا ويمينًا وكان الجنود والضبّاط نائمين على المقاعد. طلبت الاجتماع إلى المسؤول وكان على ما أظنّ يسمّى الميجور مائير. ويبدو أنّه كان في قيلولة كسائر الجنود، فاتّصلوا به وفي أقلّ من دقيقتين جاءني، فأطلعته على الغاية من مجيئي، نظر إليّ متعجّبًا متسائلًا هل يحمل سلاحاً، وأين هو الآن وكيف يكون تسليمه؟ أجبت إنّني لم أرَ سلاحاً بيده وأنّه موجود في قاعة الاستقبالات في دار المطرانيّة، وإنّي مستعدّ أن آتي به إليكم لا أن تذهبوا أنتم وتستلموه من دار المطرانيّة. أجاب "طيّب أنا بانتظارك هنا"، فقلت له "أعطِ أوامرك للجنود لكي يفتحوا لنا البوّابة الخارجيّة بسهولة".
تسليم وتسلّم
عدتُ مشياً على الأقدام، وصلت إلى المطرانيّة فالتقيت الخوري طانيوس خارجاً بسيّارته إلى مغدوشة، ليشترى موتور كهرباء يؤمّن النّور في هذه الأيّام الصعبة. استوقفته وقلت له انتظرني. دعوت الرائد صلاح من الصالون ورحنا في السيّارة يقودها الخوري طانيوس، من دون أن أفصح له عن العمليّة الّتي أنا بصددها. توقّفنا أمام المركز المقصود، وقلت للخوري طانيوس انتظرني قليلًا إن أردت. صعدت درج النادي بأقدام ثابتة والرائد صلاح يتقدّمني، سلّمت على قائد الموقع مجدّداً الميجور مائير، ودعاني إلى مكتب فيه ثلاثة مقاعد جلس الرائد صلاح على واحدة منها، ودعاني الميجر إلى الجلوس فاعتذرت قائلًا له "لي طلب إليك أرجو أن تحقّقه لي"، فقال "وما هو؟". قلت "الرائد صلاح يسلّم ذاته إليكم عن يدي أرجو أن تحسنوا التصرّف معه حفاظاً على كرامته الإنسانيّة وكرامتكم"، فأجابني بالإنكليزيّة "good". ولمّا حاولت الخروج طلب منّي الرائد صلاح أن أجلب له من بيته في صيدا، من عند شقيقته كتاب "كفاحي" لهتلر، لأنّه يريد أن يتسلّى، فأجبته: "إنّني لا أعرف البيت ولست مستعدّاً لأن أقوم بهذه المهمّة. أطلب منّي كتاباً آخر"، فقال "الكتاب المقدّس The Bible"، فأجابه الضابط اليهودي "أنا أعطيك إياه طمّن بالك". حديث لم يدم أكثر من عشر دقائق وعمليّة تسليم وتسلّم تحمل في طيّاتها أسراراً وأسراراً. خرجت بعد ذلك إلى سيّارة الخوري طانيوس وطلبت منه الرجوع إلى المطرانيّة لأطلعه على حقيقة ما جرى.
زيارة مفاجئة
كان ليل وكان صباح، وبينما كنت جالساً إلى مكتبي في المطرانيّة، دخل عليّ اثنان بعد ثلاثة أيّام، عرفت منهما الرائد صلاح، والآخر ضابط إسرائيلي كبير عرّفني بنفسه قائلًا "إسأل صاحبك صلاح إذا كان مبسوطاً ومرتاحاً عندنا أم لا؟". فقلت "الظاهر أنّه مرتاح، ما دام برفقتك"، واستأذنني صلاح وطلب شقيقته على التلفون من المطرانيّة، وقال لها أن تعدّ له ثيابه وتستودعها المطرانيّة قبل المساء، وفي عودته يمرّ فيأخذها، وإذا كان بإمكانها أن تنتظره لتراه بعد عودته فحسناً تصنع. وهكذا كان، وحقّقت شقيقته مطلبه كاملاً والتقيا بعد الظهر. وعندما خرج صلاح والضابط من مكتبي رافقتهما بحسب اللياقة وأدب الضيافة حتّى الباب الخارجي، إذّاك سأل الضابطُ الرائدَ صلاح "أين تريد أن تقعد؟"، فأجاب صلاح "على المقعد الأمامي"، واتّخذ الضابط الإسرائيلي محلّه على المقعد الخلفي، وصلاح على المقعد الأمامي، وانتقلت بهما السيّارة شمالًا.
هكذا كان ولم أكن أدري، ولا أحد أظنّ أنه كان يدري، ما كنت أرى وأعيشه من أحداث ما كانت بالحسبان، حتّى إنّ الناظر إليها بعد سنوات عجاف مرّت على لبنان فأفقدته عافيته وباعدت بين المواطنين، وشرّدت الكثيرين منهم، يتساءل عن حقّ وبمرارة "أين نحن من لعبة الدول؟ أين نحن من لعبة الكبار؟". يبدو أنّنا لا نزال قاصرين وغيرنا هو الّذي يحكمنا ويُسيّرنا خدمة لمصالحه، وإن تظاهر الكثيرون بالحبّ لنا والعطف علينا، تظلّ مصالحهم في الدرجة الأولى، وبقدر ما تكون مصالحهم مخدومة وقائمة، بقدر ذلك نفيد القسط البسيط من الخيرات الّتي يدّخرونها على حسابنا.
زيارة أخرى مفاجئة
ظنّ الجيش الإسرائيلي من خلال ما جرى ورويته على القرّاء الأعزّاء، أنّني صديق لهم ومؤيّد لما قاموا به. ذات يوم وحوالى الساعة التاسعة صباحاً، دخل عليّ في المكتب ضابطان إسرائيليّان أحدهما برتبة جنرال والثاني برتبة كومندان. ولدى دخولهما باب المكتب قال الأول "الجنرال طُف Tov يريد أن يشرب فنجان قهوة عندك"، فأجبته "أهلاً وسهلاً". وكان إلى جانبي في المكتب لدى دخولهما محامٍ صديق، يدعى ميشال عبدو، قمت ودعوت الجميع إلى قاعة الاستقبال بمن فيهم المحامي ميشال الّذي لم ينبس ببنت شفة. وإذ دخلنا القاعة قال لي الضابط الأكبر معرّفاً بالأصغر بقوله إنّه لا يعرف لا الفرنسيّة ولا العربيّة، فأجبته بأنّ المشكلة تلك هي مشكلتكم، وهنا سرّ قضيّته. ولمّا جلس وأخذنا نتناول القهوة، قلت له "إلى متى ستظلّون مثابرين على هذا القصف والتخريب في البلاد؟"، أجاب "لبنان بيت يحتوي على أولاد صغار يلعبون بالنّار؛ يأخذون كبريتاً يشعلونه ويشعلون بذات الوقت البيت، اضطرّ جارهم إلى التدخّل لئلّا تصل النّار إلى بيته"، فأجبته: "لبنان شبيه ببيت فيه أولاد صغار يلعبون بالكبريت ويحرقون بيتهم، ولكن من هو الّذي يعطيهم الكبريت؟". إذّاك وضع الضابط يديه على ركبتيه ووقف قائلاً ومودّعاً "لسنا نحن من يمدّهم بالكبريت". وخرج مسرعاً والغضب بادٍ على وجهه، فاضطرب ضيفنا وصديقنا المحامي ميشال عبدو وقال "ليتني ما دخلت ولا سمعت ما سمعت". قلت له مشجّعاً "لا تخف، هؤلاء جماعة تخاف من قول الحقيقة فلا تخف منهم".
تلك حادثة جرت معي ومن بعدها لم أعد أرى جندياً أو ضابطاً إسرائيليّاً يدخل المطرانيّة. وإن كان لا بدّ من حقيقة تقال لتبقى للتاريخ، فإنّي مذ دخولهم إلى لبنان، حذّرت الصديق والعدو، الكبير والصغير، من اللبنانيّين من الدخول معهم في الحديث واستضافتهم، وزيارتهم، حتّى إنّ البعض ممّن سمعوني أقول ذلك، تقيّدوا بما كنت قد قلته لهم، وشكروني في ساعة التجربة والامتحان الّذي عاشه اللبنانيّون معهم، كما ذكّروني بما كنت قد حذّرتهم منه.