عادت الحرب إلى غزة المنكوبة لتزيد من مآسيها المتوالية منذ تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 المشؤوم. ظنّ الغزيّون أن الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في 19 كانون الثاني الماضي ستدوم، خصوصاً بعدما أصبح "رجل السلام" دونالد ترامب رئيساً لأميركا، إلّا أن حسابات تل أبيب وموازين القوى الإقليمية والدولية لم تُمكّن "حماس" من التملّص من اقتراح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف القاضي بتمديد "المرحلة الأولى" من "اتفاق غزة" بدل الانتقال إلى "المرحلة الثانية" التي تتمسّك بها الحركة، من دون "فتح أبواب الجحيم" عليها وعلى القطاع، كما توعّد ترامب. فلم يتأخّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتلبية نداء "الصديق الأعظم لإسرائيل" وإشعال لهيب الحرب من جديد، بالتوازي مع إطلاق واشنطن "حملة تأديبية" قاسية ضدّ الحوثيين في اليمن وتخييرها "الراعي الرسمي" للمتمرّدين، أي إيران، ما بين "العصا الغليظة" و"الجزرة الصغيرة"، التي تراها طهران مجحفة بمكانتها الإقليمية.
يبدو أن "الفواتير الثأرية" من 7 تشرين الأوّل أقوى بما لا يُقاس من "المفاعيل الهدنوية" لـ 19 من كانون الثاني، ولا سيّما أن "أميركا ترامب" ليست "أميركا بايدن" إطلاقاً. فترامب يعتمد استراتيجية "الردع الهجومي" بشكل واضح وصريح في مواجهة "الأخطبوط الإيراني" لتحقيق النتائج المبتغاة والوصول إلى واقع جيوستراتيجي يصبّ في مصلحة واشنطن وحليفتها إسرائيل، بعكس إدارة سلفه جو بايدن التي كانت تنتهج مقاربة يطغى عليها الطابع الدفاعي. هذا ما جعل الغزيين يسترجعون فجر الثلثاء ذكريات حديثة لم تفارقهم البتة من مشاهد القصف والفوضى والنزوح والجثث ورائحة الموت والبارود، فتحوّل سحورهم الرمضاني إلى حمّام دم حقيقي، تخطّت خلاله حصيلة القتلى الـ400 من شمال القطاع إلى جنوبه مع تدشين إسرائيل عملية "العزة والسيف".
صحيح أن القصف الإسرائيلي العنيف لم تواكبه عملية برّية حتّى اللحظة، بيد أن مقاتلات الدولة العبرية كفيلة وحدها بتعميق مآسي الغزيين وسط تلويح إسرائيلي باستخدام كافة قدرات الجيش الجوّية والبحرية والبرّية حتى تحقيق الغايات المنشودة. سارعت دول عربية وغير عربية إلى شجب استئناف إسرائيل عمليّاتها العسكرية، إلّا أن الأخيرة لا تكترث للتنديدات الإقليمية والدولية كثيراً طالما استحصلت على "ضوء أخضر" من "العم سام"، فكيف إذا ما حمّلت واشنطن مسؤولية نسف الهدنة لـ "حماس" من على منبر مجلس الأمن الدولي، مبدية دعمها لإسرائيل في خطواتها المقبلة؟ كما كان معبّراً اتهام واشنطن، طهران، بالوقوف وراء "كلّ جماعة إرهابية"، متحدّثة عن "فرصة تاريخية لإعادة تشكيل" المنطقة من خلال "تقوية العلاقات بين إسرائيل وجيرانها"، ما يوفر "بديلاً من النفوذ الإيراني الخبيث"، في إشارة إلى هدف ترامب بتوسيع نادي دول "اتفاقات أبراهام".
استغلّت إسرائيل الفرصة السانحة لاستكمال شطب أسماء إضافية على "اللائحة السوداء" لديها، وهي على يقين أن تصفية قادة الحركة وأخواتها أكثر ما قد يوجع الفصائل. وبذلك يأخذ "طوفان الأقصى" مداه في جرف قياديين جدد من مستويات مختلفة "على طريق القدس"، فبعد مروان عيسى ومحمد الضيف وإسماعيل هنية ويحيى السنوار... اعترفت "حماس" أمس بمقتل ستة من قياداتها، وهم رئيس متابعة العمل الحكومي عصام الدعليس، وعضوا المكتب السياسي للحركة ياسر حرب ومحمد الجماصي، ووكيل وزارة العدل المستشار أحمد الحتة، ووكيل وزارة الداخلية اللواء محمود أبو وطفة، والمدير العام لجهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان. كما نعت "الجهاد الإسلامي" الناطق باسم جناحها العسكري "سرايا القدس"، ناجي أبو سيف، المعروف بـ "أبو حمزة".
غدت "حماس" في وضعية صعبة للغاية ولم يعد لديها أي قدرة على المناورة بعدما جعلت تل أبيب قوّتها النارية الفتاكة "تكتيكاً تفاوضياً" يُضعف الحركة ويُحرجها داخلياً وإقليمياً، لجلبها إلى "طاولة الوسطاء" بشروط ويتكوف الصارمة. استحالت الحركة وحيدة في ساحة الوغى مع تغييب "رفاق الممانعة" الذين صاروا مُقعدين غير قادرين على "النزال"، باستثناء إطلاق الحوثيين لـ "صاروخ يتيم" أُسقط قبل بلوغه إسرائيل. وكان لافتاً اكتفاء "حماس" بالتهديد بصواريخ لم تُستخدم حتى الآن ودعوة فلسطينيي الضفة الغربية إلى "النفير العام والانتفاض غضباً وثورة"، في وقت حرصت فيه الحركة على إرسال "إشارات دبلوماسية" بضرورة العودة إلى اتفاق وقف النار والتشديد على مرونتها وإيجابيّتها، حتّى ذهبت إلى حدّ الإعلان أنها لم ترفض مقترح ويتكوف.
ما زال نتنياهو يُجيد السير في "حقل ألغام" داخلي ودولي متشعّب، مغتنماً التناقضات المحيطة به، فقد أعاد "حليفه المتمرّد" إيتمار بن غفير إلى "بيت الطاعة" وحرف الأنظار نسبياً عن نيّته إقالة رئيس "الشاباك" رونين بار، بعدما أحدثت القضية "زلزالاً سياسياً" في الأوساط الإسرائيلية، رغم توقّع استعار الحراك الشعبي ضدّ نتنياهو بـ "زعامة" ذوي الرهائن. يقف "بيبي" اليوم متكئاً على "ظهر ترامب"، رافعاً سقوفه في المفاوضات التي لن تتواصل "إلّا مع استمرار إطلاق النار"، كما جزم رئيس الوزراء الإسرائيلي، فيما جدّد تمسّكه بتحقيق كلّ أهداف الحرب التي "لم تنتهِ بعد"، معتبراً أن الضغط العسكري ما زال في بدايته وهو شرط حيوي لإعادة الرهائن. كما كرّر ربط التطوّرات بـ "تغيير شكل الشرق الأوسط".
كلام نتنياهو يُعيد المسار التفاوضي إلى "نقطة الصفر"، وسط توالي التقارير عن مساع أميركية وإسرائيلية حثيثة لإيجاد دول وكيانات مستعدّة لإعادة توطين الفلسطينيين، مقابل مكاسب "استقلالية" ودبلوماسية وسياسية ومادية، ما يعني عملياً استمرار الجهود لتعبيد الطريق أمام "خطّة ترامب" لتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، أو ما يُعادلها ويجعل القطاع أقلّه بلا "حماس"، علماً أن الدولة العبرية تُمعن في قضم مناطق في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) رويداً رويداً وجعل مخيّماتها ومدنها أماكن غير صالحة للعيش، كما هي الحال اليوم في غزة، ما يدق ناقوس الخطر، خصوصاً في عَمّان والقاهرة. سفك الدماء في غزة واحتمال توسّع رقعة الحرب مجدّداً لتغيير البيئة الأمنية الإقليمية جذرياً، قد يؤدّيان إلى تحوّلات جيوديموغرافية وجيوسياسية هائلة وعميقة.