عندما كان الثنائي الشيعي في ذروة نفوذه السياسي والأمني، عجز عن فرض معادلة “العددية”، فكيف هو الحال اليوم، بعدما تراجعت هيبته المصطنعة وانكشفت محدودية قدرته؟
أما مبدأ “العددية” بحدّ ذاته، فقد أصبح من الماضي، بعدما ترسخت فكرة الفدرالية في الوعي الجماعي للبنانيين، وبرزت كخيار جدي في نقاشات الناس والصالونات السياسية، بل وحتى ضمن مقاربات الحل للخروج من الأزمة البنيوية التي تضرب الكيان اللبناني.
الثنائي اليوم في موقع التراجع، ومهما حاول المناورة أو التذاكي، فإن الواقع السياسي عرّى عجزه وأسقط طروحاته. وحتى من زاوية “العددية النظرية”، تلاشى التأييد له، وبدأ من كان يُحسب عليه يتمايز عنه، بعدما تبيّنت الكلفة الباهظة للتحالف مع فريق يُثير سلوكه علامات استفهام كبرى واستغراباً مشروعاً.
فهل يُعقل، بعد كل ما أصاب اللبنانيين من انهيارات وانقسامات، أن يبقى النقاش أسير عقدة “العددية”، وأن يُختزل مصير لبنان بجدل عقيم، بدل فتح نقاش حقيقي وعميق حول طبيعة النظام وشكل الفدرالية التي قد تشكّل مخرجاً توافقياً؟
الكل يُجمع على ضرورة تطبيق اللامركزية الإدارية لتحسين الخدمات وضمان التنمية المتوازنة، لكن ما إن يُطرح موضوع اللامركزية السياسية – أي الفدرالية – حتى تُستنهض الغرائز، ويُرفع الفيتو، وكأننا أمام خيانة وطنية أو محاولة تمرد!
السبب واضح: من يرفض مجرّد النقاش بالفدرالية، يخفي في لاوعيه طاغية صغيراً مهووساً بالهيمنة، وجباناً كبيراً يخشى أي حوار وطني صادق قد يهدد امتيازاته، أو يطن ان هذا النقاش الداخلي قد تعَطله قوى إقليمية أو دولية. هؤلاء يرفضون الإقرار بأن الفدرالية ليست تمرّداً، بل مشروع إنقاذ، ينتشل لبنان من مستنقع الشلل والتكرار الممل للدراما السياسية اللبنانية المزمنة، نحو نظام عصري، وقابل للحياة.
فيلوّح رئيس مجلس النواب نبيه بري بمحاولة تغيير قواعد اللعبة، عبر طرح “لبنان دائرة انتخابية واحدة”، في خطوة تهدف إلى نقل النقاش من جوهر الأزمة إلى مساحة أخرى. هذا الطرح، وإن غُلّف بالنسبية، يعيد إشكالية “العدد” إلى الواجهة، حيث تتحوّل الأكثرية العددية إلى أكثرية نيابية، في تغييب صريح للتوازنات الميثاقية الدقيقة التي قام عليها لبنان.
فلماذا التلهّي بالبحث عن قانون انتخابي جديد، قبل تطبيق القانون القائم بكل مندرجاته، وقراءة نتائجه بتمعّن لاستخلاص حسناته وثغراته؟ والأولوية اليوم ليست لتعديلات شكلية، بل لإعادة تثبيت مرجعية الدولة، وبسط سلطتها على كامل أراضيها. فلتبدأ الدولة أولاً بنزع سلاح الفصائل الفلسطينية وسلاح حزب الله، وبعد تنظيف البيت الداخلي، يمكن الانطلاق نحو نقاش أعمق يتعلق بطبيعة النظام وقانون الانتخابات.
وفي كل مرة يُطرح فيها ملف السلاح غير الشرعي، يسارع الثنائي إلى استحضار شعار “إلغاء الطائفية” ويدفع باتجاه “الدائرة الواحدة”، في محاولة مكشوفة لتفخيخ مسار قيام الدولة، بدل الدفع به نحو حلول جدّية.
في الواقع، يعيش الثنائي الشيعي اليوم مأزق السلاح واستحقاق إعادة الإعمار. وبين هذا وذاك، يحاول حزب الله و أمل الهروب إلى الأمام، عبر افتعال ساحات اشتباك بديلة وتضييع البوصلة، كما اعتادا في كل مرة يضيق فيها الخناق السياسي عليهما.