جويل غسطين

رحلة بين الذّاكرة والانتماء

"جاذبيّة الجذور": أسئلة وجوديّة في معرض رنده علي أحمد

يشكّل معرض "جاذبية الجذور: كيف ننجو دون أن نغادر" للفنّانة التشكيليّة اللّبنانيّة رنده علي أحمد، مساحة تأمّلية تنفتح على أسئلة وجودية تمسّ كل فرد: التعلّق والانفصال، الثّبات والتّحوّل، والانتماء في زمن التّغيّر. فمن خلال 14 عملاً فنّياً تتنوّع بين اللّوحات والتّركيبات النّحتيّة، تنسج الفنّانة تجربة بصريّة ومفاهيميّة تستعرض فيها العلاقة بين الإنسان ومحيطه، حيث تتقاطع الذّاكرة مع اللّحظة الرّاهنة في توازن دقيق وهشّ.


المعرض الذي يقام في مبنى "ستون غاردنز" بمحلّة "مرفأ بيروت"، شهد افتتاحه حضوراً لافتاً من فنّانين ونقّاد ومهتمّين بالرسم والثقافة والفنون، وكانت الأجواء نابضة بالحوار والتّفاعل، جمعت بين التّعبير الفنّي والتّأمّل في القضايا التي تتناولها الأعمال المعروضة في بيئة هادئة تسمح بالتّفاعل مع المضمون العميق للرّسومات والمنحوتات.



بين الجذور والرّحيل

أعمال الفنانة رنده علي أحمد تدعونا إلى مواجهة التّساؤلات حول المكان والزّمان، وحول تلك "الجاذبيّة" الّتي تشدّنا إلى الجذور، مقابل قوى خفيّة تحثّنا على الرّحيل والمجازفة. وفي هذا السّياق، توضح علي أحمد لـ "نداء الوطن" أنّ الظّروف الّتي تجبرنا على الرّحيل، تتصارع مع تعلّق جذورنا بالأرض التي تشدّنا للحفاظ على هويّتنا.


وتنقل الفنّانة هذه العلاقة المتناقضة بين الرّغبة في الرّحيل والرّغبة في البقاء، بلوحة تُظهر رجلًا يقف على سطح الأرض، لكنه ليس مجرّد عابر فوقها، بل هو امتدادٌ عميق لها. جذوره تتفرّع من قدميه، تخترق التربة الصفراء المضيئة التي رغم صعوبة الانفصال عنها، إلّا أنها تحرّر ولا تقيّد. فجذوره المتوغّلة في الأرض ترمز إلى الانتماء، إلى الهويّة التي لا تفنى مهما حاول أن يتقدّم أو يبتعد.



صمود الرّوح 

في تركيبة نحتيّة فريدة أخرى، تتجسّد شجرة الزّيتون — الرّمز الأزلي للسّلام والصّمود — تحتضن روحاً خالدة بين أغصانها التي تظهر ملتوية، وجافّة، كأنّها احترقت، لتعكس الأثر العميق للحرب، ولعلّها تشير بشكل مباشر إلى ما خلّفه القصف بالفوسفور، حين تحوّلت الأرض من مهدٍ للحياة إلى ساحة للموت. لكن رغم كلّ هذا الألم، هذه الرّوح الّتي تتوسّط الجذع، ترمز للخلود. كأنّ الشّجرة — رغم احتراقها — ما زالت صامدة، ثابتة ومتجذّرة. هذا العمل يتحدّث عن مقاومة الزّمن والمأساة، شهادة بصريّة، يندمج فيها الجسد بالأرض، والرّوح بالجذور.



تجاوز الجغرافيا

تُشكّل أعمال الفنانة رنده علي أحمد رحلة عبور فنّية تتخطّى الجغرافيا والمفاهيم التّقليدية، حيث تمتد تجربتها بين بيروت ولوس أنجلوس. في هذا الإمتداد الزّماني والمكاني، تلتقط في لوحاتها التّوتر النّاتج عن الاغتراب والانفصال عن الجذور، وتحوّله إلى حوار بصري حيّ بين الذّاكرة واللّحظة الحاضرة، بين ما تمثّله الهويّة وما تطرحه من تساؤلات في سياق متغيّر. فكل عمل في المعرض يبدو كأنه بصمة شخصيّة أو صدى لرحلة داخليّة، تعبّر الفنانة من خلالها عن رؤيتها الذّاتية للعالم.


تنبع مقاربة علي أحمد لموضوع الانتماء والاقتلاع، من جذورها الشخصية، كما أوضحت في حديثها معنا. فخلال الحرب الأهلية اللبنانية، اضطرت للانتقال إلى لوس أنجلوس، وهو انتقال لم يكن مجرّد تغيير في الجغرافيا، بل هزّة نفسية تركت بصمتها العميقة على مسارها الفني. هناك، بدأت تتبلور في داخلها أسئلة كبرى حول الهوية، والانتماء، وما يعنيه أن يُقتلع الإنسان من أرضه.


هذه الأسئلة أصبحت اليوم جوهر معرضها الذي عملت على فكرته طوال ست سنوات تقريباً. من خلاله، تسعى رنده علي أحمد إلى تأكيد أنّ الرحيل، رغم كل الظّروف القاسية الّتي مرّ بها لبنان، لم يكن خياراً سهلاً على الإطلاق. فالارتباط بالأرض لا يتوقّف عند حدود المكان، بل هو علاقة وجدانيّة ووجوديّة.



تقنيّات وألوان فريدة 

تستعين رنده علي أحمد بتقنيات متعدّدة لإعطاء أعمالها عمقاً حسّياً وبصريّاً، إذ تمزج بين الأكريليك على القماش، والوسائط المتعدّدة، وصولاً إلى الطّين المُتصلّب.


من ناحية اللون، تميل الفنانة إلى استخدام الألوان الداكنة والمشرقة على حدّ سواء، في ما يشبه محاولة دائمة لالتقاط مشاعر أوّلية خام، والتعبير عن سعي دائم نحو التوازن في عالم يفتقر إلى الاستقرار. وتقول إن أعمالها "أشبه بآثار حياة"، تبحث في عمقها عن موقع الإنسان في عالم دائم التحوّل، حيث تتجّلى موضوعات الانتماء، المقاومة والرّحيل. وتتكامل التّجربة مع أربع تركيبات نحتيّة منتشرة في أرجاء المعرض، تعزّز إحساس الترسّخ والحركة في آن.



* يستمرّ معرض "جاذبية الجذور: كيف ننجو دون أن نغادر" للفنّانة رنده علي أحمد حتّى يوم الأربعاء 16 نيسان 2025، في مبنى "ستون غاردنز" - محلّة "مرفأ بيروت"، يوميّاً من السّاعة 10 صباحاً حتى 1 ظهراً، ومن الساعة 3 بعد الظّهر حتى 6 مساءً.




رندة علي أحمد: إبداع واحترافيّة


وُلدت الفنانة رنده علي أحمد في بيروت عام 1962، حيث تعيش وتعمل اليوم. بدأت مسيرتها الفنية في سنّ مبكرة، حين أقامت أول معرض فردي لها في بيروت خلال سنوات مراهقتها، ما شكّل انطلاقتها نحو عالم الفنون البصرية.

تابعت دراستها الأكاديمية في "الجامعة اللبنانية الأميركية" ومنها نالت شهادة في الفنون، وتخرّجت بامتياز حاصدةً "جائزة الشيخ زايد".

نالت شهادتين في التّصميم الدّاخلي والفنون التّشكيلية من "جامعة كاليفورنيا" في لوس أنجلوس (UCLA). وقد أقامت هناك معرضها الفردي الأوّل عام 1988.

شاركت رنده علي أحمد في معارض جماعية في باريس وبيروت، على مدى سنوات، ما ساهم في ترسيخ حضورها كأحد الوجوه البارزة في الفن المعاصر اللّبناني.