تثير سياسة الرسوم الجمركية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الساحة الدولية قلقاً من إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي القائم منذ عقود على التجارة الحرّة، لكن بعد قراره الأربعاء الفائت تعليق الرسوم المتبادلة المفروضة على عشرات الدول التي أبدت استعدادها للتفاوض مع واشنطن، لمدّة 90 يوماً، وزيادته التعرفة على الصين التي ردّت على رسومه وتوعّدت بـ "القتال حتى النهاية"، يرى الخبراء أن الرئيس الأميركي يدرك أنه لا يستطيع شن "حرب تجارية" على حلفائه والصين في آن واحد، لذا سيسعى إلى عقد صفقات مع الدول التي علّق الرسوم الجمركية المتبادلة المفروضة عليها، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، بهدف تعزيز وضعية بلاده إزاء الصين، الغريم الاستراتيجي الأوّل لأميركا، وتسريع جلوسها إلى طاولة المفاوضات.
برهنت بكين أنه ليس من السهل التنمّر عليها باستخدام "العصا الاقتصادية" الأميركية. بالفعل، وبينما سارعت دول العالم إلى إبداء استعدادها للتفاوض وتقديم تنازلات مقابل رفع رسوم ترامب عنها، ردّت الصين عبر فرض رسوم على البضائع الأميركية والتضييق على شركات أميركية وتقييد تصدير المعادن النادرة التي تحتاجها أميركا للمحافظة على قدراتها التكنولوجية وتطويرها. لكن بكين أبدت انفتاحها على الحوار مع واشنطن، مشدّدة على ضرورة أن يجري على أسس الاحترام المتبادل والمساواة، فيما أعرب ترامب عن رغبته في التوصل إلى اتفاق مع الصين لإنهاء "الحرب التجارية" المتصاعدة.
لا تقتصر التنازلات التي يتوقعها ترامب من الصين على مسألة تقليص العجز التجاري معها، بل تشمل أيضاً معالجة معضلات مزمنة تعتري العلاقات الأميركية - الصينية. مثلاً، ربط الرئيس الأميركي بين تسهيل بكين بيع تطبيق "تيك توك" في أميركا لشركة أميركية وبين رفع بعض الرسوم عن السلع الصينية. كما فرض رسوماً بنسبة 20 في المئة على الصين بسبب فشلها في الحدّ من تجارة مادة "الفنتانيل" المخدّرة التي تقتل عشرات آلاف الأميركيين سنوياً، والتي تأتي المادة الأولية لتصنيعها من الصين.
بالإضافة إلى ذلك، تحدّث ترامب عن معاناة الشركات ورجال الأعمال والعمال الأميركيين على مدى عقود من فائض الإنتاج الصيني، وتلاعب بكين في عملتها، وسرقة الملكية الفكرية الخاصة بتصنيع بضائع أميركية من قِبل الشركات الصينية، التي تستخدمها لتصنيع سلع مشابهة، ثمّ تصدّرها إلى أميركا وغيرها من الدول، حيث تبيعها بأسعار أرخص، في وقت تفرض فيه رسوماً عالية على الكثير من السلع الأميركية وتشن "حرباً قانونية" على شركات أميركية تعمل في الصين.
لكي يتمكّن ترامب من جعل بكين قابلة للتفاوض الجدّي، يشير الخبراء إلى أنه يتعيّن عليه تقليص خياراتها التجارية البديلة وتضييق هامش المناورة لديها على الساحة الدولية عبر تعزيز علاقات بلاده مع الحلفاء، خصوصاً في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، حيث نسجت أميركا شبكة علاقات استراتيجية على مدى العقود الماضية بهدف احتواء الصين ومنعها من فرض هيمنتها على المنطقة. وقد بدأ ترامب هذا المسار، إذ انطلقت مفاوضات بين أميركا وكلّ من كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وفييتنام والهند بهدف معالجة مسألة الرسوم.
تذمّر ترامب مراراً من العجز في الميزان التجاري بين بلاده وكلّ من اليابان وكوريا الجنوبية، لكنّ الدولتين عرضتا الخفض أو التخلّص كلّياً من الرسوم التي تفرضانها على البضائع الأميركية. كما أن إحدى الأوراق المهمّة التي يمكن أن تستخدمها سيول وطوكيو خلال المفاوضات مع واشنطن، تتمثل بعرضهما مساعدة ترامب في مسعاه لإعادة إنعاش قطاع تصنيع السفن الأميركي لمواجهة الصين، التي باتت تشكّل 53.3 في المئة من قطاع تصنيع السفن العالمي، الذي تمثل الولايات المتحدة 0.1 في المئة فقط منه، حسب إحصاء نشره "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، في حين تشكّل كوريا الجنوبية واليابان 42.2 في المئة من القطاع. لذا، من مصلحة إدارة ترامب أن تسهّل تعزيز التعاون مع البلدَين الحليفين بهدف مواجهة قدرات الصين التي ستهدّد، في حال تركت تتفاقم، حرّية الملاحة، بدءاً من أقصى شرق آسيا، وصولاً إلى باقي مناطق العالم.
أمّا بالنسبة إلى تايوان، فإن لإدارة ترامب مصلحة حيوية في تعزيز العلاقات معها، إذ فضلاً عن الأهمّية الاستراتيجية القصوى التي تتمتع بها الجزيرة في إطار سياسة احتواء الصين، فإنها تهيمن على صناعة أشباه الموصلات، الضرورية لتحقيق رؤية ترامب المتمثلة بريادة أميركا في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يشهد منافسة شرسة بين أعظم قوّتين في العالم. تحتكر "شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات" (تي أس أم سي) تصنيع 90 في المئة من أشباه الموصلات المتطوّرة في العالم، في وقت شدّد فيه ترامب على ضرورة تعزيز الصناعة المحلّية من أشباه الموصلات، ملوّحاً بفرض رسوم بنسبة 100 في المئة على صادرات "تي أس أم سي" لبلاده في حال لم تبنِ مصانع في أميركا. وقد تعهّدت الشركة باستثمار 100 مليار دولار لبناء خمسة مصانع في الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة.
ولكن، يطمح ترامب إلى المزيد، فيما تخشى تايبيه أن تخسر ورقة هيمنتها على هذه الصناعة التي تشكّل حافزاً مهمّاً للأميركيين للدفاع عنها في حال قرّرت الصين ضمّها. لذا، من المتوقع أن يسعى التايوانيون إلى تحصيل ضمانات أمنية إضافية من أميركا مقابل نقل بعض من قدراتهم الصناعية إليها، الأمر الذي لن يكون صعباً حصوله، إذ تحتلّ سياسة احتواء الصين رأس أولويات سياسة ترامب الخارجية، لكنه من المرجّح أن يحض تايوان على زيادة إنفاقها الدفاعي قبل منحها أي ضمانات أمنية جديدة.
توازياً، ترى واشنطن مصلحة في الحفاظ على علاقاتها مع فيتنام والهند وتمتينها، بحيث يشكّل البلدان قوّتان صناعيتان مؤثرتان، إذ في حال لم تتوصّل الإدارة الأميركية إلى اتفاق مع الصين حول الرسوم، سيتعيّن عليها تكثيف تبادلها التجاري مع فيتنام والهند لكي تتمكّن من تعويض البضائع الصينية من دون التسبّب بتضخم في أسعار السلع في البلاد. المشكلة الأساسية التي يراها ترامب في علاقة بلاده مع هانوي ونيودلهي تكمن بالرسوم المرتفعة التي تفرضانها على السلع الأميركية والعجز في الميزان التجاري الأميركي مع كلّ منهما. لذا، في حال عرض البلدان تصفير أو خفض ملحوظ لتلك الرسوم وتعزيز استيرادهما من أميركا، مثلاً عبر شراء مزيد من الموارد المنتجة للطاقة منها، لا يجب أن تواجها مشكلة في التوصّل إلى اتفاق مع ترامب.
على صعيد آخر، بدأت بكين بمغازلة الاتحاد الأوروبي بعيد فرض رسوم ترامب، حيث جرى الحديث عن اتفاقات تجارية جديدة مرتقبة بين الصين وأوروبا، في وقت تشهد فيه العلاقات الأميركية - الأوروبّية أصلاً توتراً ملحوظاً قبل الحديث عن الرسوم. يرى ترامب أن بلاده تعاني من عجز تجاري كبير مع الاتحاد، وتنفق أيضاً مبالغ طائلة على قدراته الدفاعية، بينما يستورد الاتحاد جزءاً مهماً من الموارد المنتجة للطاقة التي يستهلكها من روسيا. لذا، اقترح ترامب على الأوروبّيين استيراد تلك الموارد من أميركا، ما سيؤدّي إلى خفض العجز في الميزان التجاري ويسمح لأوروبا بالتحرّر من تعويلها على موسكو. كما أشار ترامب مراراً إلى صعوبة تصدير سيارات أميركية إلى دول الاتحاد من جرّاء الرسوم الجمركية الأوروبّية، فأبدى الاتحاد استعداده لتصفير الرسوم التي يفرضها على السلع الصناعية الأميركية.
على الرغم من الغزل القائم بين الاتحاد الأوروبي والصين، يتوقع الخبراء أن يعقد الأوروبّيون صفقة مع إدارة ترامب في نهاية المطاف، لكنهم يُحاولون الآن تقوية موقفهم التفاوضي عبر التلويح بتعزيز التعاون التجاري الصيني - الأوروبي. في حال وافق الأوروبّيون على استيراد موارد الطاقة من أميركا وألغوا الرسوم على البضائع الصناعية الأميركية، فضلاً عن تنفيذهم بجدّية تعهّداتهم بزيادة إنفاقهم الدفاعي، من المرجّح أن يكون ذلك كافياً بالنسبة إلى ترامب ليعتبر أنه حقق إنجازاً ولم يعد بحاجة إلى إعادة تفعيل الرسوم على دول الاتحاد بعد مرور مهلة الـ 90 يوماً.
لخص الكاتب شين شيوي المعركة التجارية بين ترامب والصين بمواجهة بين كتابي "فن الصفقة" و"فن الحرب". بينما يعتقد ترامب أن الرسوم تعزز وضعيّته التفاوضية، تعتبر الصين أن ترامب يحاول التنمّر عليها والتعامل معها بفوقية، فيما ترى أنها باتت تتمتع بقوّة كافية لفرض هيبتها وردع أي كان عن تخطّي الخطوط الحمر التي ترسمها. بناء على ذلك، يتوقع المراقبون أن يكون مسار المحادثات الأميركية - الصينية شائكاً وطويلاً، لكن في حال لم يسمح ترامب لبعض ممثلي التيار الإنعزالي في إدارته بعرقلة جهوده لعقد صفقات مع حلفاء أميركا وتعزيز علاقات بلاده معهم، ستجد الصين، التي عوّلت لعقود على نموذج اقتصادي قائم على تصدير فائضها الصناعي، شيئاً فشيئاً نفسها شبه معزولة على الساحة الدولية، ما سيُسرّع الوصول إلى صفقة معها بشكل كبير.