يوسف مرتضى

ناغورنو كاراباخ استنزاف لروسيا، وجبهة صراع دولية جديدة

15 تشرين الأول 2020

20 : 23

تعود جذور النزاع الراهن في كاراباخ إلى حقبة انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث أنه مع بروز ضعف قبضة موسكو مركز الاتحاد في عهد غورباتشوف، بدأت الحركات والميول القومية في التزايد، مما أدى إلى ظهور دول جديدة. ومع ذلك، فإن جميع جمهوريات الاتحاد السوفياتي تقريباً، باستثناء(أرمينيا) كانت عبارة عن هياكل متعددة الأعراق. وفي الحقبة السوفياتية لم تؤخذ العوامل القومية والعرقية في الاعتبار إلا في الاستراتيجية العامة للتحرك نحو مجتمع ما بعد قومي جديد لـ " الشعب السوفياتي".


كاراباخ السوفياتية


في سياق تقارب لينين مع كمال أتاتورك، تمّ ضمّ هذه المنطقة إدارياً إلى أذربيجان لكنها كانت في الأساس سوفياتية، وفي تكوينها العرقي كان الأذربيجانيون والأرمن فيها يشكلون نصفين متساويين، وبالنسبة للينين كان أمراً حاسماً- أن كلاً من هؤلاء وأولئك ببساطة سيصبحون سوفيات. فكارباخ منذ تفكك الاتحاد السوفياتي يسيطر عليها الأرمن عرقياً، وهي ليست جزءاً من أرمينيا رسمياً، بل تعتبرها أرمينيا أنها من أراضيها. اعترفت موسكو افتراضياً بالوضع الراهن، أي السيطرة الأرمنية الفعلية، ولكن على المستوى الإداري- وبحكم القانون- دعمت موسكو الحفاظ على ناغورنو كاراباخ وسبعة مناطق احتلتها أرمينيا عسكرياً داخل أذربيجان بأنها أراضٍ أذربيجانية.

كانت يريفان تأمل في الحصول على اعتراف من موسكو باستقلال الإقليم، لكن موسكو لم تُقدم على ذلك. هذا الوضع أدى إلى نشؤ مأزق كاراباخ.

لم يستطع الأذربيجانيون بالقوة تغيير الوضع لصالحهم. وكانت السيطرة الأرمنية ترضي الأرمن أنفسهم بشكل عام، واحتفظت أذربيجان بآمالها بسبب حقيقة أن موسكو والغرب اعترفا بالحقوق القانونية في وحدة أراضيها.

لكنه في مرحلة لاحقة تمّ الضغط وشحن الأجواء بين فريقي الصراع في إقليم كاراباخ من قبل الإسرائيليين الذين وقفوا إلى جانب باكو ومدّوها بأسلحة متطورة، لأنهم غير راضين على الشراكة بين يريفان وطهران.

وتبين لموسكو أنه مع تصعيد الصراع في كاراباخ، لن تكون قادرة على السيطرة على جنوب القوقاز. والغرب حكماً سيكون صاحب مصلحة بتحريك الوضع في كاراباخ، ولكن ليس من أجل الخروج من المأزق، بل من أجل خلق مأزق جديد – أكثر فائدة له، وأكثر ضرراً لروسيا.


محور "موسكو - باكو" في عهد بوتين وإلهام علييف


على الرغم من أن مأزق كاراباخ الجيوسياسي، الذي نشأ في أوائل التسعينيات والذي لا يزال موجوداً حتى وقتنا الحاضر، وعلى الرغم من أن نسبة العوامل الرئيسية قد تغيرت إلى حد ما في العقد الماضي، ولكنها لم تحدث إخلالاً بالتوازن العام وذلك للأسباب التالية:

أولاً، كان هناك تقارب بين بوتين ووريث حيدر علييف إلهام علييف . كان بوتين يستعيد سيادة روسيا التي فقدها الليبراليون بالكامل تقريباً في التسعينيات، مما أجبره على إعادة النظر في استراتيجية موسكو في منطقة ما بعد الإتحاد السوفياتي في البصريات الأوراسية. وهذا بدوره يتطلب مراعاة جميع اللاعبين من أجل منع التقارب المفرط مع الغرب. إلهام علييف لم يندفع إلى الغرب، وتصرّف بطريقة أكسبته ثقة بوتين، وهكذا بدأ محور موسكو – باكو في التبلور، ولم يكن هناك سوى مشكلة كاراباخ.

ثانياً، تبين أن نظام إلهام علييف كان مستقراً وفعالاً، مما أدى إلى زيادة تأثير باكو في الجغرافيا السياسية، وإلى انتعاش اقتصادي وسياسة اجتماعية ناجحة. بعد تأرجح التسعينيات ، استقر المجتمع، مما أثر أيضاً على نمو الإمكانات العسكرية الاستراتيجية، التي كانت في السابق في حالة مزرية. استعدت باكو تدريجياً لحل عسكري وهذا جعل موقفها أكثر قوة.


توقف الحرب في 2016 وخطة ال5 مقاطعات


في ربيع 2016، سئم إلهام علييف الإنتظار، وقرر أن يظهر بأن الإنتظار لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. أدى ذلك إلى التصعيد وبداية الهجوم العسكري الأذربيجاني وخلال فترة وجيزة، تمكنت باكو من استعادة عدة مناطق صغيرة في المناطق المجاورة لكارباخ. لكن الهجوم توقف بضوء اتصال من بوتين بإلهام علييف، حيث توخى نقل خمسة من مناطق أذربيجان السبع التي احتلها الأرمن كخطوة أولى لنزع فتيل الوضع المتفجر.

تمكن بوتين من تنسيق هذا المشروع مع علييف وسيرج سركسيان رئيس أرمينيا. ومع ذلك، بدأ سركسيان لاحقاً في تأخير تنفيذ المشروع، متذرعاً بحاجته للإصلاح السياسي في أرمينيا أولاً، ومع ذلك، في اللحظة الحاسمة، عندما كان كل شيء أصبح جاهزاً تقريباً، أطاح به نيكولا باشينيان الرئيس الأرمني الجديد، الذي كان أكثر توجهاً نحو الغرب وبدأ في تخريب مشروع المقاطعات الخمس بشكل حاد.

هذا الأمر وضع موسكو في موقف حرج مرة أخرى، وظهر كأنه كان القصد أن يحصل على هذا النحو بتوجيه من الغرب لباشينيان حسب مصادر روسية مطلعة.

بالنسبة للغرب، كانت خطة المقاطعات الخمس، التي تحافظ على الوضع القائم وتفتح الطريق لمزيد من التقارب بين موسكو وباكو، غير مقبولة تماماً، تلك الخطة التي كان قد جرى التوافق عليها في اجتماع مينسك بمشاركة روسيا أميركا وفرنسا.

هذا الوضع خلق الشروط المسبقة لما يحدث في كاراباخ اليوم. وأصبح فشل مشروع المنطقة الخماسية عاملاً جيوسياسياً أساسياً لاندلاع الأعمال العدائية التي تفجّرت صباح يوم 27-سبتمبر 2020.


هل هي ضربة لروسيا؟ لكن لماذا اليوم ؟


ما يحدث اليوم في كاراباخ وفي حال تطور إلى حرب شاملة بين أذربيجان وأرمينيا، سيشكل ضربة قاصمة لروسيا، لأنه سوف يؤدي إلى انهيار ميزان القوى الذي تنعم روسيا به حالياً.

إن مراجعة هذا التوازن من خلال العمل العسكري في أي اتجاه، لن يؤدي إلا إلى نتائج سلبية على روسيا. ومن غير المحتمل أن تكسب أرمينيا أي شيء حتى من الناحية النظرية ( بعدما تحصّلت على الحد الأقصى في حروبها السابقة). أما باكو، بعد أن أصبحت أقوى بكثير، لديها فرص معينة لتحقيق بعض النجاح، ولكن لا يمكن لأي فريق بينهما أن يحصل على نصر كامل. لماذا؟

أولاً، لأن الأرمن وخاصة شعب كاراباخ – يقاتلون بشراسة واستبسال.

ثانياً، أرمينيا مرتبطة بتحالف عسكري مع روسيا.

ثالثاً، إذا أصبح الخطر الشديد يهدد الأرمن تماماً ، ولم تتصرف روسيا وهو ما لا يمكنها ببساطة السماح به بما يتجاوز حداً معيناً، فسيقوم الغرب بالدفاع عن الأرمن، خاصة إذا كانت أذربيجان مدعومة من تركيا، حيث سبق أن عبّر عن ذلك أردوغان بصوت عالٍ .

حتى الآن يبدو أن التصعيد العسكري في كاراباخ لا يجلب سوى الخسائر والأضرار الجسيمة لجميع المشاركين فيه وجميع الأطراف المساندة. ومع ذلك، إذا كان المستفيد بالتأكيد ليس أرمينيا، وإذا تكبدت روسيا من الناحية الجيوسياسية تكاليف باهظة للغاية، وكانت فوائد أذربيجان مشكوكاً فيها وإشكالية للغاية حتى إذا تمّ احتلال بعض المناطق، فإن علييف سيزيد من سوء علاقاته ليس فقط مع موسكو، ولكن أيضاً مع الغرب- رغم وعود ضباط الارتباط في المراكز الاستراتيجية الغربية له.


من المستفيد من مثل هذا الصراع اليوم؟

إنطلاقاً مما نشهده من تفاقم للصراع على الصعيد الدولي في أكثر من جبهة وعلى أكثر من محور، والأخذ بالتوسع، نرى أن اختيار اللحظة يتزامن مع تفاقم الصراع عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية ما ينذر بانفجار حرب أهلية حقيقة في الولايات المتحدة، حيث أصبحت المواجهة بين ترامب وبايدن صراعاً أيديولوجياً بين ( العولمة) الديمقراطيين و( القوميين) مؤيدي ترامب.

يعتقد دعاة العولمة أن ترامب يقود الصراع إلى عالم متعدد الأقطاب، وهو ما يسعى إليه بوتين. وبالتالي، فإن ضربة لروسيا ستضعف إلى حد ما موقف ترامب، الذي لا يرى في روسيا عدواً حقيقياً، وفي نظر خصوم ترامب، روسيا حليف لترامب. من الواضع أن دعاة العولمة يقفون وراء باشينيان، بمساعدة من كانوا يأملون في تحطيم أو حتى قطع التحالف الروسي الأرمني الذي كان من الممكن هزه، ولكن ليس كسره. ربما جاؤا من الجانب الآخر أي من جانب باكو. وتوقيت اندلاع الحرب كما الأحداث في بيلاروسيا يجري توقيتها بما يساهم في توظيف ذلك في الحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة ضد ترامب حليف بوتين. ومن جانب آخر يضغط التدخل التركي على روسيا وإيران في كاراباخ لمنعهما من تحريك الوضع في إدلب السورية من جهة ويتقاطع مع الرغبة الأميركية في إشغال موسكو من جهة ثانية، وبما يسهّل لأردوغان تحقيق طموحاته التوسعية نحو البلاد الطورانية في آسيا الوسطى، والذي في حال نجاحه بذلك يشكل تهديداً حقيقياً لوحدة الإتحاد الروسي، بانفصال شمال القوقاز المسلم عن روسيا، كما يهدد وحدة إيران بانفصال إقليم إذربيجان الإيراني والبالغ تعداد سكانه حوالي 16 مليون نسمة وهم شيعة من أصول تركية.


ما يحدث في كاراباخ يهدد روسيا. لذا هي تحرص على وقفه بأي ثمن، فهل تنجح؟


لكي تتفادى موسكو العواقب الوخيمة لتطورات المجابهة بين أرمينيا وإذربيجان، نراها تبذل قصارى جهدها لإحلال السلام بينهما بأي ثمن – وهي نجحت بجمع الفريقين حول طاولة مستديرة توصلوا خلالها إلى وقف عاجل لإطلاق النار ببعد إنساني(لم ينجح). ولكن من دون مقاربة موضوع الصراع من الجانب السياسي، سيجعل هذه الجبهة جرحاً نازفاً لروسيا يضاف إلى الجروح الأخرى في سوريا وليبيا وأوكرانيا وبلاروسيا. جبهة كاراباخ تستنزف روسيا من جهة وقد تحّول علاقات التعاون بين روسيا وإيران وتركيا إلى مجابهات أو تصادمات حيث أن عناصر تعارض المصالح بينهم كبيرة جداً في أكثر من مجال، وتضارب المصالح بين بلدان هذا التريو سيوفر الأسباب والذرائع لنفاذ الغرب وتحديداً الأميركي لإشعال النيران بينهم، ما يمكّنه من إدامة سطوته على إدارة العالم، وخاصة في ظل غياب قيام أي حلف دولي يقيم توازناً حقيقياً في مواجهته. والجميع يسأل في هذه الحال أين دور الصين في المسرح العالمي.


MISS 3