د. أنطوان مسرّه

بوليارشية موحشة أو شروط حوكمة لبنان

لم تكتب جريدة Le Monde في 30/11/2020 أن لبنان غير قابل للحكم بل إنه «أصبح وحشاً غير قابل للحكم»! كيف أصبح كذلك وما العمل؟ تُستخلص شروط إمكانية حوكمة النظام الدستوري اللبناني من نصّ الدستور اللبناني بالذات والاختبار التاريخي الأليم والمتراكم والسعي حالياً إلى استعادة الدولة الطبيعية لبنانياً بعد انتخاب رئيس الدولة وتأليف حكومة «إجرائية» استناداً إلى مجمل الفصل الرابع من الدستور وليس برلماناً مصغراً حيث يتعطّل مبدأ الفصل بين السلطات والتضامن الوزاري ولا تتخذ قرارات إلا من خلال تبادل منافع.


لا تستقيم أية منظومة دستورية في العالم في واقع احتلال. إن سلطات الاحتلال المباشر أو بالوكالة منذ اتفاقية القاهرة سنة 1969 وتداعياتها ثم اتفاقية قاهرة متجددة في 6/2/2006 وكوارثها. تم التلاعب بالتعددية اللبنانية مع بركة مثقفين بدون خبرة وأيديولوجيين حول العصرنة والبناء القومي وكتّاب لم يتابعوا أو لم يفهموا عمق الأبحاث العالمية المقارنة منذ سبعينات القرن الماضي حول الأنظمة البرلمانية التعددية. يكمن منبع الانحرافات في اغتراب ثقافي في كل ما يتعلق بالإدارة الديمقراطية للتعددية الدينية والثقافية.


1. تعددية منتظمة أو بوليارشية موحشة؟ كل تعددية ثقافية، بالمعنى الاجتماعي، هي صعبة الإدارة حتى في العائلة النووية المنسجمة. يكمن الخطر الأكبر دستورياً في التحوّل إلى البوليارشية polyarchie، أي تعددية مراكز القرار، وبالتالي أزمة حكم وتوفر سلطة ناظمة autorité وتقرير في إطار مرجعية الدولة ووحدانيتها. الدولة بطبيعتها هي سلطة ناظمة تحسم ولا تساوم! يتبيّن عجز الدولة في لبنان في تأرجح النظام الدستوري اللبناني «بين الجمود والعنف»:


François Bourricaud, Esquisse d’une théorie de l’autorité, Paris, Plon, 1961, 422 p., pp. 319-351 ; « Le modèle polyarchique et les conditions de sa survie », Revue française de science politique, XX, oct 1960-5, pp. 893-923, et Jean-Claude Douence, « Régime libanais et polyarchie », conférence à l’Association libanaise des sciences politiques, 16 juin 1971, 27 p. et résumé par A. Messarra in L’Orient-Le Jour, suppl. Samedi, 26/6/1971.


ان التفسير الاجتراري من منطلق «الطائفية»، التي يوردها ميشال شيحا بين مزدوجين (Politique intérieure, p. 79). هو بالغ السطحية وعديم الفعالية لأنه هروب من المعضلة. أين تكمن المعالجة لجعل النظام الدستوري اللبناني قابلاً للحكم؟


2. شروط إمكانية حوكمة لبنان في رئاسية قممية: إن دستور 1926 وتعديلات 1989 هي بالغة الوضوح في النص. لكنها عرضة للمخادعة «ولم تفهم ولم تقرأ جيداً»، كمجمل ميثاق الطائف، كما يقول حسين الحسيني، وأيضاً من قبل من يدّعون الاختصاص في القانون الدستوري لبنانياً.


هذه النصوص في الدستور اللبناني هي ثمرة اختبار بخاصة في عهد الرئيس فؤاد شهاب ورؤساء دولة آخرين في أوضاع صعبة. إن النظام البرلماني اللبناني هو برلماني تعددي برئاسة رئيس جمهورية هو «رئيس الدولة يسهر على احترام الدستور» (المادة 49) خلافاً لإدراك ماروني سائد (ولا نقول الموارنة ولا بكركي) وشرط التعاون مع حكومة «إجرائية»، وليس مجرد تنفيذية، حيث يتم «تمثيل الطوائف» (المادة 95) وليس بالضرورة قوى برلمانية وأحجام وحصص حسبما ورد في سجالات شعبوية بخاصة منذ 2016. يعمّم مثقفون بدون خبرة المخادعة، غالباً عن حسن نيّة. يذكّر ذلك بقول George Orwell: «توجد أفكار شاذة لدرجة أن مثقفين وحدهم هم قادرون على إدراكها».


إن رئيس الدولة اللبناني هو ملك دستوري غير وراثي ضامن لسمو الدستور أي الكتاب، حسب تعبير فؤاد شهاب. أما رئيس الحكومة فهو «رئيس مجلس الوزراء» يحكم استناداً إلى جذور ميثاق الطائف (المادة 64 الجديدة).


انحرفت عن المسار الدستوري سلطات الاحتلال والعملاء والزبائن في الداخل، مع بركة مثقفين بدون خبرة ودستوريين ببغاء، وتم ابتداع «الترويكا» (الرؤساء الثلاثة)، كوسيلة لإرساء هيمنة فئوية وتطبيق عقيدة تعود إلى الكاتب الإسرائيلي Sammy Smooha لمواجهة معضلة السلطة الناظمة. هذا المسار هو النقيض المطلق لمضمون المادة 65 من الدستور:


Sammy Smooha, “ Control of minorities in Israel and North Ireland” , Comparative studies in society and history, Cambridge University Press, vol. 22, no 2, April 1980, pp. 256-280, et autres travaux de cet auteur.


إن المادة 65 من الدستور هي روعة في المخيلة الدستورية اللبنانية وعلى المستوى العالمي والمقارن في تجنّبها في آن طغيان أقلية وطغيان أكثرية من خلال الأكثرية الموصوفة majorité qualifiée في أربعة عشرة قضية محددة حصراً.


خصصنا ماضياً دراسة حول رئاسة مجلس النواب (1964-1972). من هو رئيس مجلس النواب؟ ضمن كثافة الكتابات حول الإصلاح السياسي في لبنان لا يوجد إلا دراسة واحدة حول رئاسة المجلس النيابي ودور هذه الرئاسة وموقعها:


A. Messarra, La structure sociale au Parlement libanais, UL, 1977, pp. 243-274.


إن رئيس المجلس النيابي، انسجاماً مع جذور ميثاق الطائف، هو رئيس المجلس النيابي مولجاً بالتشريع والمراقبة وليس التعطيل والجمود وخرق المبادئ البديهية في الفصل بين السلطات.


3. العلاج، أخيراً، لمعضلة الحكم لبنانياً: عندما نشرت ست مقالات في L’Orient-Le Jour بعنوان: «عهد الرئيس فؤاد شهاب ومعضلة السلطة»: L’Orient-Le Jour, 18/7-2/8/1971 استدعاني جورج نقاش إلى مكتبه وهو الذي حاضر حول موضوع :


Un nouveau style: Le chéhabisme, Cénacle libanais, 15e année, no 4, 1961.


ليلومني أولاً على تركي الصحافة اليومية بعد الاندماج بين Le Jour و L’Orient وللتعبير عن مدى تقديره لمقاربة معضلة الحكم في لبنان التي هي غائبة غالباً في مقاربات جانبية وغير فاعلة. إن معضلة مركزية الحكم في لبنان مستدامة. يتلاعب بشأنها محتلّون ومخادعون ويوفر لها البركة مثقفون بدون خبرة.


تؤدي حتماً أي منظومة بوليارشية موحشة مع تعددية مراكز القرار إلى تأرجح دائم بين العنف والجمود! لبنان متأرجح بين دولة الحدّ الأدنى، ودولة الذمية المعمّمة ودولة أقحوانية حيث ينتشل كل فريق زهرة بدون الاهتمام بالتناغم الكلي.



إن معضلة السلطة الناظمة autorité – auctoritas خلافاً للسلطة - النفوذ potestas هي في آن مؤسساتية وثقافية. يتوجب تحقيق الشروط المؤسساتية الدستورية وأيضاً تعميق شرعية الكيان اللبناني في الإدراك الجماعي من خلال عمل ثقافي وتربوي في الذاكرة الجماعية المشتركة. إنه جوهر موضوع كتاب: الدولة والعيش معاً في لبنان: في الثقافة والتربية والذاكرة (منشورات جامعة القديس يوسف، كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار، مع تقديم رئيس جامعة القديس يوسف سليم دكاش وعباس الحلبي وزير التربية والتعليم العالي، 2023).




(*) عضو المجلس الدستوري، 2009-2019