أمجد اسكندر

"أبونا فرنسيس"

في قلب كاتدرائية مار بطرس الكاثوليكية، اجتمع رئيس أوكرانيا اليهودي برئيس أميركا البروتستانتي، سعياً إلى صوغ سلام مع رئيس روسيا الأرثوذكسي. إن تحقق الحلم، يكون البابا فرنسيس قد صنع معجزة على مشارف مواراته الثرى. ما أبعد المسافة بين هذا اللقاء وذاك المشهد القديم في البيت الأبيض، حين تناوب ترامب ونائبه على تأنيب زيلينسكي أمام عدسات الكاميرات العالمية.


هناك، في حاضرة الفاتيكان، أصغر دولة في العالم، جلس الحليفان اللدودان على كرسيين عاديّين يتبادلان البوح والهمس لئلا يخدشا سمع المسجى في نعش خشبي. في شباط 2016، وتحديداً في هافانا التي ما زالت تتنفس شيوعيةً متعبة، ضمّ البابا فرنسيس إلى صدره كيريل بطريرك موسكو، في عناقٍ تاريخي، وكسر عزلةً دامت قرابة ألف سنة منذ شقاق 1054. يومها اقتربت الكنائس الشرقية والغربية خطوةً، لكن في المقابل، انفصمت عرى الوحدة الأرثوذكسية، ففي أيار 2022، أعلن بطريرك كييف الاستقلال عن موسكو، قاطعاً علاقة كنسية بدأت منذ القرن السابع عشر.


رغم ما يُقال عن هجْر الكنائس وتحويلها إلى متاجر، لا يزال الإيمان، كجمرٍ تحت الرماد، يحرّك أحداث القارة العجوز. وكان لتواضع فرنسيس وحملته الشرسة على مظاهر البذخ أثر كالسحر في إعادة الآلاف إلى جادة الإيمان. بدت سيرة حياته أبلغ من مواعظ المترفين بثيابهم الفضفاضة وصلبانهم المذهّبة. واليوم، مع غياب فرنسيس، يُطرح السؤال: هل طُويت مرحلة لن تتكرر؟ وهل سيحمل خَلَفُهُ شعلة التواضع والتشبه بالمسيح "ابن الإنسان"؟


كنيسة الرجاء لا تفقد الرجاء. فرنسيس لم يأت عنوة، بل انتخبه كرادلة هم شركاؤه في الإيمان. والكرادلة كانوا يعرفونه قبل أن يتشح بالأبيض البابوي. روما لا تعاند التاريخ لكنها لا ترخي له اللجام، تتحرك على إيقاع روحي اجتماعي، وهذا الإيقاع جعلها أقدم مؤسسة لا تزال عاملة في العالم.


لكل زمن بابا ولكل بابا مهمة. يوحنا بولس الثاني حمل رياح تحطيم الستار الحديدي وتقويض الأنظمة الشيوعية. بعده جاء بندكتوس السادس عشر بجرعات زائدة من اللاهوت، فقال كلمته وتنحى وراء صليبه في دير بعيد عن روما. ثم آن أوان فرنسيس وصرخ: "تعالوْا إِلَيَّ يا جميع الْمُتْعَبِين والثَّقِيلِي الأَحْمال، وأَنا أُرِيحُكُمْ". هذا الأرجنتيني بدا كأنه "أبونا البابا"، وكدنا ننسى لقب الحَبر الأعظم. مع البابا الجديد، تلوح تحديات غير مسبوقة، منها كيف ستواجه الكنيسة زحف الذكاء الاصطناعي الذي يهدد بتحويل الروح إلى خوارزمية والعقل إلى آلة؟ مهمة البابا المقبل لن تقتصر على رعاية الإيمان بل ستطال الدفاع عن جوهر الإنسان في زمن تسوده الآلات. لبنانياً، يُقال إن البابا فرنسيس أبطأ خطاه في زيارتنا لملاحظات له على أهل السياسة وأهل الكنيسة معاً. الرسالة وصلت، وإن غاب المرسل، فماذا أنتم فاعلون؟