محمد علي مقلد

ترسيم حدود بين الثورة والانتفاضة

17 تشرين الأول 2020

02 : 00

في كتابي "هل الربيع العربي ثورة؟" أجبت جازماً، مع أدلة وبراهين من تجارب التاريخ، أنه ثورة بكل معنى الكلمة بل هو أول ثورة يشهدها عالمنا العربي بعد الثورات التوحيدية في الأديان السماوية وغير السماوية. الثورة اللبنانية بدت تتويجاً عبقرياً لهذا المسار. من بين الأسماء المتداولة التمرّد والحراك الشعبي والعصيان والوثبة، إضافة إلى الانتفاضة، وهو الأقل إساءة في التعبير عنها. إلا أنه ممر سهل تسلًلت منه الثورة المضادة، واستخدمه البعض بديلاً منها، والبعض الآخر انتقاصاً من قيمتها بقصد محاربتها.



الأكثر تشويهاً لمعنى الثورة ليس التسمية بل الأحداث التي نسبت زوراً إليها، ولا سيما منها قديماً ثورات الزنج والبابكية والقرامطة، وحديثاً انقلابات قادها ضباط الجيش في سوريا ومصر والعراق والسودان وليبيا واليمن أو انقلابات قادها معممون، على غرار ما حصل في إيران، بحسب رأي السيد هاني فحص.

الانتفاضة فورة غضب واحتجاج، وهي آنية محدودة المدى في الزمان وفي المكان. وتتحول إلى ثورة إن امتلكت برنامجاً وخطة. الثورة اللبنانية أعلنت برنامجها في الأسبوع الأول من ولادتها، وتضمّن إعادة تكوين السلطة بانتخابات مبكرة وتحصين السلطة القضائية، إضافة إلى محاسبة المسؤولين عن الفساد ونهب المال العام وتدمير مؤسسات الدولة.

قد يقول قائل، وما علاقة التوحيد بالثورة؟ أحيله إلى سمير أمين الذي ميز بين ثلاث ثورات في التاريخ، التوحيدية التي شكلت الإطار النظري، أي الإيديولوجي، لانتقال المجتمعات البشرية إلى عصر الزراعة وتحول الحاكم الإله إلى ممثل لله على الأرض، والرأسمالية التي شكّل العلم الوضعي إطارها النظري ودشنت الثورة الفرنسية فيها تحولاً سياسياً صار الحاكم بموجبه ممثلاً للشعب، والثالثة بنظر سمير أمين هي الثورة على الرأسمالية.

بلدان العالم العربي لم تنجز ثورتها الرأسمالية على الصعيد السياسي. هي انخرطت في الاقتصاد الرأسمالي واعتمدت مناهج التعليم الوضعي، لكنها تمسكت بأنظمة الاستبداد السلطانية أو ابتكرت صيغاً جديدة من الاستبداد قوامها جمهوريات الوراثة أو تعليق الدساتير. هذا هو المشترك الذي فجر ثورات الربيع العربي ضد الأنظمة.

لبنان هو الاستثناء الوحيد. دخل إلى الرأسمالية من أبواب الاقتصاد والعلم وكذلك من باب السياسة واعتمد النظام البرلماني الديموقراطي المستلهم من الدستور الفرنسي. غير أن القوى السياسية، يسارية ويمينية، استدرج كل منها قوة خارجية واستقوى بها ليخوض حرباً أهلية لم تتوقف إلا بنظام وصاية أوقف العمل بالدستور وفرض أعرافاً سياسية جديدة هي نسخة طبق الأصل عن النظام الاستبدادي العربي بنموذجه البعثي.

حافظ نظام الوصاية على الآليات الشكلية في الديموقراطية وألغى مضمونها. حافظ على صناديق الاقتراع وصار يسمي بالتعيين الفائزين سلفاً في الانتخابات نواباً أو رؤساء جمهورية؛ وعلى البرلمان ثم أفرغه من المشرّعين وصار يملي عليه نصوص المراسيم والقوانين. أبقى على سلك القضاء وجعله خلواً من النزاهة والعدالة؛ وعلى مؤسسات الدولة وألغى معيار الكفاءة وتكافؤ الفرص، محوّلاً دولة القانون والمؤسسات إلى غابة يتحاصص مغانمها وحوش التشبيح والبلطجية والميليشيات.

الأخطر من كل ذلك أنه نقل العقلية الميليشياوية إلى هيكل الدولة فأوكل عملية الإشراف على إعادة البناء إلى القوى المتورطة في الحرب الأهلية، فأزال من الشوارع أكياس الرمل وخطوط التماس وأبقى المتاريس في المشاعر القومية والطائفية التي أضرمت شرارة الحرب.

انتفاضات كثيرة موضعية وآنية اندلعت خلال الحرب الأهلية وبعدها، احتجاجاً على الجوع والغلاء وتفلّت السلاح والطائفية، وعلى المحاصصة والفساد والنفايات والعتمة والوسخ السياسي والفضائح المالية؛ ضخمة وجماهيرية أحياناً، ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي مثلاً في النبطية بمناسبة عاشوراء، أو ضد الجيش السوري في ساحة الشهداء في 14 آذار. انتفاضات كثيرة وعديدة، لكن الثورة واحدة، هي ثورة السابع عشر من تشرين الأول 2019.

الانتفاضات لا تطمح إلى غير تعديل في قانون أو في منهج عمل السلطة أو على ميزان القوى في الصراع معها أو سعياً وراء مطلب معيشي. أما الثورة فلا تكتفي بالتعديل بل تطالب بالتغيير، وبإسقاط السلطة وإعادة تشكيلها بآليات جديدة. أشهر الانتفاضات العربية تلك التي طالبت بالخبز وسماها أنور السادات بانتفاضة الحرامية وانتهت بعد يوم وليلة. أما الثورة فهي تلك التي كانت بدايتها في تونس ولن تكون نهايتها في السودان.

شعار واحد تردد في الربيع العربي. الشعب يريد إسقاط النظام، لا بدوافع طبقية كالجوع والفقر وتفاوت المداخيل ولا بأخرى تتعلق بالقضايا القومية وبالصراع مع إسرائيل، وهي دوافع حقيقية تلكأت السلطات عن إيجاد حلول لها، بل بدافع وحيد هو وضع حد للتوريث السياسي والتخلص من أنظمة الاستبداد الرابضة على صدر الأمة من محيطها إلى خليجها. الخطوة الأولى في طريق الإصلاح تتمثل بسن الدستور حيث لا توجد دساتير، أو بتعديله في حال وجوده، بما يضمن الانتقال إلى آليات ديموقراطية في تشكيل السلطة.

من فضائل ثورة 17 تشرين أنها فضحت ارتكابات السلطة اللبنانية بحق الشعب والدستور والديموقراطية، بتجسيدها وحدة وطنية تجمع أطراف الوطن وتخترق الحواجز الطائفية المصطنعة التي وضعتها الطبقة الحاكمة للتغطية على مفاسدها. أفظع تلك المفاسد هو انتهاكها الدستور باسم الطوائف لتبرير تقاسمها السلطة وخيرات الدولة ومؤسساتها ووضع البلاد على حافة الافلاس والانهيار، وتفقير اللبنانيين وتهجيرهم في أربعة أرجاء الكرة الأرضية.

ومن ابتكاراتها أنها لم تطالب بإسقاط النظام بل بتطبيقه، أي باحترام الدستور والقوانين المرعية. هذا هو المعنى الحقيقي لثورة تحت سقف الدستور، صعّبت على الطبقة الحاكمة اعتماد الآليات ذاتها في تشكيل الحكومات وفي إدارة شؤون البلاد بعقلية التشبيح الميليشياوي. أما العنف الذي قتل ثواراً وفقأ عيوناً ولاحق مناضلين فهو ليس نتيجة بقايا الاستبداد في نهج المنظومة الحاكمة فحسب، بل هو كذلك من فعل الثورة المضادة ومن فعل من لم ترتقِ الانتفاضة في وعيهم إلى مستوى الثورة.

كما الربيع العربي، يخمد في مكان ويشتعل في آخر إلى أن يزول الاستبداد وتعمّ الديموقراطية، هكذا هي الثورة اللبنانية التي لو كانت انتفاضة لانتهت بعد يوم وليلة. هي تحولت، رغم كل الصعوبات المالية والكورونية، إلى لاعب أساسي في صنع مستقبل الوطن، فوحّدت تحت رايتها شباب لبنان وشاباته، وأقنعت بخطابها العاقل والرصين لبنانيي الشتات وحكام العالم بأنها باقية وبأن حكم الفساد والإفساد والنهب المنظم إلى زوال، وبأن لبنان الجديد سينبعث كطائر الفينيق وطناً سيداً حراً مستقلاً.