مريم سيف الدين

الفرصة ما زالت سانحة.. لا تسمحوا للنظام بإعادة إنتاج نفسه

ساحات الثورة متروكة للذكريات

17 تشرين الأول 2020

02 : 00

في ساحة الشهداء
في الذكرى الأولى لاندلاع "انتفاضة 17 تشرين"، فرغت الساحات، إستسلمت للصمت، صمتٌ تخرقه بعض محاولات إحياء الانتفاضة. تجتاح الظلمة ساحتي رياض الصلح والشهداء وسط العاصمة، وهما ساحتا المواجهات، تارة بين القوى الأمنية والمتظاهرين وأخرى بين المتظاهرين ومناصري الأحزاب "الحريصين" على قمع الانتفاضة. حالهما كحال الساحات في المناطق. بقي من الانتفاضة ذكريات وبعض العبارات المكتوبة على الجدران والزفت المحروق على الأرض، تذكّر أن شعباً انتفض ذات تشرين. تحولت الساحات اليوم الى ساحات استذكار وحنين للحظة الأجمل في تاريخ لبنان. وبانتظار أن تعاد الكرّة، تمر ذكريات عدة في الخاطر تحكي عن أبرز محطات تلك الانتفاضة التي ولدت فجأة، وولد معها أمل حقيقي بالتغيير عاد وتلاشى بهمة السلطة وبمساعدة كبيرة من كوفيد - 19.




ليلة "17 تشرين" المجيدة:

في وقت كانت فيه بوادر الانهيار المالي الكبير تلوح أمام اللبنانيين، وبينما كان سعر صرف الليرة قد بدأ بالانهيار مقابل الدولار، قررت الحكومة اللبنانية مدّ يدها أعمق في جيب المواطن فارضة ضريبة على استخدام تطبيق "واتساب". كذلك اتجهت الحكومة لفرض رزمة جديدة من الضرائب على المواطنين. في تلك اللحظة، دعت مجموعة "لحقي" المواطنين للتظاهر رفضاً لسياسة الحكومة الاقتصادية. لم تتوقع المجموعة أنها لحظة الانتفاضة. بداية نزل عدد قليل من المتظاهرين إلى الساحة، قطعوا جسر الرينغ، وسرعان ما بدأ المواطنون الغاضبون بالتوجه إلى الشارع. جالت مسيرة من الرينغ باتجاه مصرف لبنان وبدأ عدد المشاركين في الإزدياد. انطلق العشرات من الرينغ وأصبح العدد ألوفاً في ساحة رياض الصلح. لم يستوعب الوزراء ما يحصل ليلتئذِ، وأقدم مرافق وزير التربية في حينها، أكرم شهيب، على إطلاق النار واستعراض عضلاته وسلاحه بين المتظاهرين. ما زاد من عزمهم على المواجهة فأحيوا ليل الانتفاضة أمام السراي الحكومي، وامتدّ الغضب إلى بقية المناطق من الشمال إلى الجنوب، وقطعت الطرقات. وفي المواجهة مع مرافق الوزير تجرأت ملك علوية وواجهت "الكلاشن" بركلة أصابت المرافق، فتحولت صورة اللحظة لرمز انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي.

إخراج الضاحية من الانتفاضة

ليلة "17 تشرين" إمتدت نيران الانتفاضة إلى جميع المناطق وأقفلت الطرقات بالدواليب المشتعلة، وكانت الضاحية الجنوبية لبيروت من بين المناطق الأكثر تفاعلاً وغضباً، وأقفلت طريق المطار. صباح اليوم التالي ازداد غضب الضاحية وانغماسها بالانتفاضة، اقفلت طرقاتها ومحالها وجميع تقاطعاتها الأساسية. لم ينتظر أهلها موقف "الثنائي" المسيطر على المنطقة، اعتبروا أنه حكماً معني بالمطالب المعيشية وبالتالي هو حكماً في صلب الانتفاضة كون من يمثّلهم يعانون من الأزمة الاقتصادية. من قلبها هتف متظاهرون "كلن يعني كلن" رافضين استثناء أو تبرئة أيّ من الأحزاب. يومها لم يكن الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصرالله، قد أطل بعد بمواقفه المعارضة للانتفاضة. وقف "الحزب" يتفرج على المتظاهرين وهم ينفّسون احتقانهم متجنّباً التصادم معهم.

نهار السبت في 19 تشرين، أعلن نصرالله موقفه الرافض لإسقاط الحكومة. وعمل "الحزب" سريعاً بعد الخطاب على إخراج الضاحية من الإنتفاضة، ففي صباح اليوم الذي تلا خطاب نصرالله، سارع رئيس بلدية الغبيري، معن الخليل، لفتح الطرقات مستعيناً بشرطة اتحاد بلديات الضاحية، وأهمها طريق المطار. وسارع الخليل لتحديد كلفة الأضرار التي اتهم المتظاهرين بالتسبب بها حتى قبل إحصائها. من ثم نزل الجيش وفتح طريق المطار بشكل كامل ومنع اقفاله مجدداً. بعد انهاء التظاهرات، انتشرت آليات "حزب الله" في الضاحية، وحرصت على مراقبة المنطقة ومنع التجمعات فيها. وبذلك أخرجت الضاحية الجنوبية لبيروت من الانتفاضة. من ثم بدأت تخرج منها مجموعات حزبية تعتدي على المتظاهرين وترهبهم. في الوقت نفسه بدأ سكانها الرافضون للسلطة بكل مكوناتها، وعلى رأسهم "حزب الله" بالتوجه إلى قلب العاصمة للتظاهر.

إحراق الخيم واستقالة الحكومة

على الرغم من تمسك "حزب الله" بحكومة الحريري ومحاولة أمينه العام في خطاباته تيئيس المتظاهرين وإقناعهم بأنهم لن ينجحوا باسقاط الحكومة، استمر هؤلاء بالنزول إلى الشارع، وتمكنوا من دفع الحريري للاستقالة في 29 تشرين الأول. استقال الحريري بعد تسعة أيام من استقالة وزراء حزب "القوات اللبنانية"، في وقت كان شركاؤه في الحكومة، وأبرزهم "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، يبحثون عن صيغة تعديل وزارية تمتص غضب الشارع وتمنع سقوط الحكومة. وبعد تخوين نصرالله للمتظاهرين، توجه مئات الشباب من محازبين ومناصرين للثنائي الشيعي إلى جسر الرينغ لفتح الطريق بالقوة وإنهاء الاحتجاجات حرصاً على بقاء الحكومة. لكنّ الاعتداء سرّع في استقالة الحريري الذي تخوف من أن تسوء الأمور أكثر وتأخذ منحى دموياً.

وأعلن الحريري استقالته في اليوم ذاته، بعد ساعات قليلة من الاعتداء، حيث نزل شبان الثنائي إلى "الرينغ" واعتدوا بالضرب على المتظاهرين أمام أعين القوى الأمنية وبحمايتها. ومن الرينغ انتقل هؤلاء إلى رياض الصلح، ومن ثم إلى موقف اللعازارية وساحة الشهداء. سرقوا ما في الخيم، أحرقوها واعتدوا على المتظاهرين بالضرب. وغادروا الساحات بعدما ظنوا أنهم أنهوا التظاهرات بعد ساعات من الضرب والتخريب.

الثوار يحاصرون المجلس ويكبلون مطرقة بري

27 عاماً ظلّ خلالها رئيس مجلس النواب نبيه بري قابضاً على مطرقة المجلس بيد لا تلين، لم يفلتها سوى لرئيس السن بانتظار إعادة انتخابه رئيساً بعد كل دورة انتخابية. لكن وفي 19 تشرين الثاني 2019، عرف الثوار كيف يقولون هم "رفعت الجلسة" ويأخذون المطرقة من بري وإن لأيام قليلة. يومها حاول بري تجاوز مطالب المنتفضين وحدد موعد الجلسة التي كانوا قد نجحوا بدفعه لتأجيلها في المرة الأولى. لكن وبعد التأجيل الأول أصرّ بري على عقد الجلسة غصباً عن المنتفضين. لكنّ إرادة هؤلاء كانت أقوى من إرادة رئيس المجلس الذي طالبوه بالاستقالة بعد 27 عاماً من حكمه، توالت خلالها الأزمات وصولاً للإنهيار، وانتهك خلالها الدستور من قلب المجلس.

من المنتفضين من نام في الساحات قبيل موعد الجلسة، ومنهم من استيقظ في الصباح الباكر وتوجه إلى مداخل مجلس النواب. فطُوّق المجلس ومُنع معظم النواب من الوصول إليه، ورفعت الجلسة. يومها حاول النائب علي عمار كسر إرادة المنتفضين، فدخل المجلس على "الموستيك"، لكنه خاب، فلامَ القوى الأمنية على ما اعتبره تهاوناً مع المتظاهرين.


أمام ثكنة الحلو في 15 كانون الثاني ( فضل عيتاني)



ليلة المصارف في الحمراء

إستغلّت المصارف الانتفاضة لتقفل أبوابها بوجه المودعين، ومن ثم عادت لتفتح لكنها بدأت بمنع المودعين من التصرف بأموالهم وحجزها واقتطاع نسب منها، بما يتعارض مع القوانين والدستور. فبدأ حقد المواطنين على المصارف بالازدياد، واستمرت هي بدورها في إذلالهم وسرقتهم. حرصت وزيرة الداخلية في حينها ريا الحسن، على تفريغ عناصر من قوى الأمن الداخلي لحماية المصارف ومنع الإحتكاكات بين المودعين والقابضين على أموالهم. وفي حين بدأت سياسة تقنين الدولار في رفع سعر صرفه بحدّة، ارتفعت في الشارع الهتافات المنددة بأداء المصارف، فكانت ليلة المصارف في شارع الحمرا، على بعد أمتار قليلة من وزارة الداخلية. حيث أقدم مئات المحتجين على تكسير واجهات عدد من المصارف، ليل 14 كانون الثاني، رفضاً لإجراءات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وللسياسة النقدية.

فبعد اعتداء قوى الأمن الداخلي بوحشية على المتظاهرين أمام مبنى مصرف لبنان، انتقل هؤلاء إلى شارع الحمرا الرئيسي المكتظ بفروع المصارف وبدأوا بالتكسير. نزلت القوى الضاربة في فرع المعلومات والجيش اللبناني لمؤازرة قوى الأمن الداخلي، لمنع التمادي بتكسير المصارف، واعتقلت كل من بقي في المكان بعد ساعات من الضرب واستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع. ليلة أوقفت فيها القوى الأمنية نحو 60 شخصاً، بعدما تحول شارع الحمرا الى شارع يلاعبها فيه المحتجون "اللقيطة والغميضة". وامتدت ليلة المصارف إلى مناطق أخرى لا سيما صيدا وطرابلس. بينما، وللمفارقة، ظلت فروع المصارف في الضاحية بأمان.

إستهداف الإعلاميين أمام ثكنة الحلو معتقل الثوار

في "ليلة المصارف" نقلت القوى الأمنية المعتقلين إلى ثكنة الحلو، التي تتحول مع كل موجة احتجاجات إلى معتقل للمتظاهرين، يجري فيه تعذيبهم. وهو ما وثقته الكاميرات واعترفت به القوى الأمنية مدعية التحقيق في الأمر. ليل 15 كانون الثاني، توجه المنتفضون إلى أمام الثكنة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين. فواجهتم القوى الأمنية بمزيد من العنف. لكن اللافت أنها لم تستثن الإعلام من الضرب والتنكيل، بل وعلى العكس تعمّد عناصر قوى الأمن الداخلي ضرب الإعلاميين ولا سيما المصورين، لمنعهم من أداء عملهم وتوثيق وحشيتهم. فنقل العديد منهم إلى المستشفى. كما جرى يومها اعتقال مصور "العربي الجديد" حسن بيضون وسحبه إلى داخل الثكنة أثناء قيامه بعمله، ومن ثم اطلاق سراحه.

"17 تشرين" بداية مسار

في حديث إلى "نداء الوطن" في الذكرى الاولى لانطلاق الانتفاضة، يرى الناشط في "لحقي" ماهر أبو شقرا، أن من أبرز مشاكل "17 تشرين" وما تلاه، غياب تعريف أو فهم موحّد لماهيّته. "عند حصول فهم موحد يصبح بإمكاننا التقييم على أساسه. من كان يعتبر"17 تشرين" ثورة ستقتلع الزعماء المتجذرين في النظام السياسي في الدولة والاقتصاد والمجتمع، سيكون محبطاً اليوم في ظل ما وصلت إليه البلاد".

مقاربة أبو شقرا مختلفة عن هذه، فهو يعتبر "17 تشرين" انطلاقة ومحطة، "فعندما دعونا للتظاهر في "17 تشرين" كنا ندرك حقيقة النظام وحجم مناصريه وكم هو متجذّر في الدولة وفي النظام السياسي والاقتصادي، "17 تشرين" محطة وليست هدفاً، هي البداية لمسار تغيير وستتبعها محطات أخرى".

وحتى بالنظر إلى "17 تشرين" كثورة، يرى الناشط السياسي أن الثورة مسار وسيرورة، يبدأ ويستمر ومن ثم يحسُم. "فهي ليست انقلاباً يحصل بين ليلة وضحاها نتيجة انهيار واقع. ما نشهده مسار يمر في صعود وهبوط ويتفاعل مع الظروف المتغيرة". وبناءً على تشخيص أبو شقرا، فإن النموذج الإقتصادي الذي يغذي استمرارية هذه المنظومة قد سقط. "هو إشعار بأن النظام بدأ يتغير وينهار، وهناك تغييرات جذرية قادمة بالسياسة، فرصتنا بألا نسمح له بأن يعيد إنتاج نفسه".

قبضة الثورة وحيدة في الساحات

بعد حوالى الشهر على انطلاقة الثورة، رفع مجسّم قبضة الثورة، بارتفاع 9 أمتارـ في ساحة الشهداء. وتحت عنوان التصدي لـ"المؤامرة" استخدم المجسم كذريعة للهجوم على المتظاهرين، واتُّهموا تارة بالانتساب لحركة "أوتبور" الصربية وتارة للحركة الماسونية العالمية وغيرها من الاتهامات. فبات لأنصار الأحزاب حقد على هذا المجسم، على الرغم من استخدامهم وأحزابهم للقبضة ذاتها. وانطلاقاً من تقديسهم لرموزهم حاول مناصرو الأحزاب أكثر من مرة نزع المجسم اعتقاداً منهم أنهم بذلك ينزعون رمزية الثورة. صباح 22 تشرين الثاني نجح أحد الأشخاص في حرق المجسم، وكتحدٍّ رمزيّ قبلت به مجموعة من المنتفضين، أعيد رفع القبضة مجدداً مساء اليوم ذاته، بعد ساعات من العمل المتواصل لإنجاز القبضة. وانتشرت القبضة في ساحات ومدن عدة أرادت من خلالها إعلان تأييدها للثورة، وبقيت القبضة وحيدة في الساحات!


MISS 3