لا تنشأ الحروب بين ليلة وضحاها، ولا تنفجر الأزمات فجأة من فراغ. إنها دوماً حصيلة تراكمات عميقة وصراعات مكتومة تجتمع عبر السنين في نسيج المجتمع، لتنفجر يوماً ما على هيئة مواجهات دموية. فبعد مرور خمسون سنة على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، هناك سؤالاً يطرح نفسه: هل كانت الحرب وليدة اللحظة؟
في لبنان، تجلّت هذه الحقيقة بشكل مأساوي حين انطلقت الحرب مدمّرة في الثالث عشر من نيسان عام 1975، لتكتب واحدة من أكثر صفحات التاريخ العربي المعاصر ظلامًا ودمويةً وتعقيدًا. الحرب اللبنانية لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة منطقية لتراكم سلسلة طويلة من الصراعات والتناقضات السياسية والطائفية، والتي ظلت تتفاعل وتتفاقم عبر عقود طويلة.
بالعودة إلى جذور الأزمة اللبنانية، تتجلّى بوضوح خطوط الانقسام الذي بدأ يتشكل منذ استقلال لبنان. ففي عام 1985، شهد لبنان أزمته السياسية الأولى بعد الاستقلال، حين احتدمت المواجهة بين تيار قومي عربي مؤيد لجمال عبد الناصر، وتيار آخر مؤيد للقومية اللبنانية بقيادة الرئيس كميل شمعون. وعلى الرغم من انتهاء الأزمة بوصول فؤاد شهاب إلى السلطة، ظل الاحتقان الطائفي والسياسي متجذّرًا ومحتقنًا تحت الرماد، مؤجلًا لحظة الانفجار الكبرى.
لم يكن الوجود الفلسطيني في لبنان أمرًا هامشيًا أو عابرًا في رسم ملامح الأزمة اللبنانية، بل شكّل نقطة تحوّل جوهرية. فبعد هزيمتَي 1948 و 1967، تدفّق اللاجئون الفلسطينيون إلى لبنان، وتفاقمت أوضاعهم مع مرور الوقت ليشكّلوا كتلة سكانية معزولة ومسلحة. ازداد الأمر سوءًا بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970 في الأردن، حين انتقلت الفصائل الفلسطينية المسلّحة إلى الأراضي اللبنانية بشكل واسع، حاملةً معها قوة عسكرية مستقلة، وخطابًا سياسيًا ثوريًا يتناقض مع البنية اللبنانية الهشّة.
شكّل توقيع اتفاقية القاهرة عام 1969 بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية مرحلة خطيرة. فهذه الاتفاقية التي كان هدفها الرسمي تنظيم الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، انتهت عمليًا إلى خلق واقع سياسي جديد، تجسّد في السماح لقوى غير لبنانية أن تفرض سيطرتها المسلّحة، وتقرر منفردة قرارات الحرب والسلام. بهذه الخطوة، انهار مفهوم السيادة الوطنية اللبنانية، وبدأ لبنان ينقسم إلى مراكز قوى متعددة ومتصارعة.
وهنا تبرز مسألة في غاية الخطورة: تحالف القوى اليسارية اللبنانية مع الفصائل الفلسطينية المسلحة، وعلى رأسها "الحركة الوطنية اللبنانية" بزعامة كمال جنبلاط. هذا التحالف الذي انطلق من شعارات ثورية طوباوية مثل "تغيير النظام السياسي الطائفي"، تحوّل فعليًا إلى كارثة وطنية. فبدلًا من تقوية الوحدة الوطنية وبناء دولة مدنية حقيقية، ساهمت هذه القوى بشكل مباشر في شرذمة الدولة وتفتيتها، وتحوّلت إلى فصائل مسلّحة متصارعة، تقود صراعًا دمويًا ضد الدولة والمجتمع معًا.
إن جوهر الخطأ الذي ارتكبته القوى اليسارية اللبنانية هو تحالفها غير المحسوب مع قوى مسلّحة فلسطينية لها أجندات مختلفة، متناسين حقيقة بسيطة وخطيرة: أنّ قوة لبنان وأمانه تكمنان في وحدته وتماسك شعبه أمام الغرباء، وليس في التحالف مع الغريب لأغراض إيديولوجية و سياسية، و ذالك على حساب الوطن. حين اختارت هذه القوى أن تتحالف مع قوى غريبة، لا يمكنها أن تتعايش مع مفهوم الدولة و الشريعة، تكون قد تخلّت عن جوهر هويتها الوطنية، وفتحت الأبواب أمام الانقسام العميق والتدخلات الخارجية اللامتناهية.
كانت حادثة عين الرمانة في 13 نيسان 1975، مجرد شرارة أخيرة في حقل ألغام مليء بالتناقضات والمظالم التي تراكمت على مدار سنوات. محاولة اغتيال الشيخ بيار الجميل والكمين الذي تعرضت له حافلة الفلسطينيين، كانتا مجرّد تفصيل صغير، لكنه كافٍ لإطلاق موجة عنف كبيرة، سرعان ما تحوّلت إلى حرب أهلية مدمّرة، مزّقت البلاد وفرّقت العائلات وشتتت المواطنين.
إن المأساة الحقيقية في الحرب اللبنانية لم تكمن فقط في الدمار والضحايا، بل أيضًا في خسارة فكرة الوطن الجامع والموحّد. فالدولة التي سمحت للسلاح الفلسطيني أن يتمركز على أرضها مستقلاً عنها، والقوى اليسارية التي غامرت بوحدتها الوطنية عبر تحالفات عمياء، جميعها تتحمل مسؤولية تاريخية عن اشتعال الحرب، وعن فقدان مفهوم المواطنة الواحدة التي تجمع الجميع تحت سقف وطن واحد.
في نهاية المطاف، لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية قدراً محتوماً، بل كانت نتاجًا حتميًا للانقسام وغياب مفهوم الدولة المركزية السيادية. إن جوهر الأزمة اللبنانية هو افتقاد الوحدة الوطنية. لا يُمكن للوطن أن يستمرّ وأن يحمي مواطنيه إذا ما غابت الوحدة الشعبية وغابت الثقة بالدولة والمؤسسات. إن درس الحرب اللبنانية الأليم هو في الحقيقة درسٌ لكل الأجيال القادمة: قوة لبنان هي في تماسك شعبه، في وحدته الداخلية، وفي الترفع عن الحسابات الضيقة، لا في التحالف مع الغريب أو الاستعانة بقوى خارجية لفرض التغيير.
لذلك يبقى التحدّي الأكبر اليوم وكل يوم، هو بناء وعي وطني جامع، قائم على الاعتراف الحقيقي بالآخر، وعلى تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية القوية التي ترفض أيّ قوة خارجية تهدد لبنان ومصالحه، وتعيد للبنان مكانته الطبيعية كبلد الرسالة والوحدة والتعددية والسلام.