وائل خير

مأساة أهل الذمّة

لم يفت أحداً من الرحّالة الذين درسوا الشرق الأوسط، تنوّع شعوبه وخصائص كلّ منها. ما لفت نظر معظمهم تصرّف انفرد به الموارنة، وامتدّ إلى الأقليّات المسيحيّة التي عاشت في ظلّهم، ذاك كان انحسار التصرّف الذمّي الذي طبع مسيحيّي "دار الإسلام". وراء هذه الفرادة، أسباب حسبنا أن نعدّد بعضها. الجبال والوديان وصعوبة اجتياحها. ثمّ إن فقر هذه البقاع لا يغري الفاتح بالمحاولة، وإن فعل، فضعف الموارد يضطرّه إلى الرحيل.


علينا أيضاً أن نضيف دور البحر المتوسط وهو أكثر البحار احتضاناً للحضارات، فتجاور جبال لبنان له أضاف إلى خصائصنا ما فات حضارات جبال أخرى لا تقلّ مناعة كجبال شرق الأناضول وأفغانستان وغيرها الكثير، إذ اكتفت بردّ الغزاة دون الاتصال بحضارات أرقى.


هما عنصران، في زعمي، لا يمكن فهم الروح المارونيّة، وامتداداتها على المسيحيّين الذين جاوروهم، دون احتسابهما.


غير أن هزائم العقود الخمسة الأخيرة تركت ندوباً في البنية الروحية لمسيحيّي لبنان وربما استأصلتها.


حدث مرّ بي منذ ما يزيد على أربعة عقود يبيّن تصرّفاً فرض على المسيحيّ الذمّي وكان مسيحيّو لبنان في حلّ منه.


اشتركت بمؤتمر حوار إسلامي - مسيحي عقد في سيدي بو سعيد في تونس بدعوة من مجلس الكنائس العالمي حضره مسلمون ومسيحيون من مختلف البلدان العربية إضافة إلى ممثلي المجلس الداعي، كما كان بين الحضور اثنان مثّلا الكرسي الرسولي. تطوّرات الشرق الأوسط كانت موضوع المؤتمر.


كان بين الحضور من مثَّل العراق. الدكتور باسل يوسف عميد كلية تدريب الدبلوماسيين في بغداد. هو مسيحيّ من حلب لكنّ ولاءه كان للبعث القومي ما اضطرّه إلى ترك سوريا والاستقرار في العراق. كانت كلمته ومداخلاته تدلّ على سعة اطّلاع على الوقائع وثقافة واسعة يستعين بها لتفسير الأحداث وردّها إلى أسبابها. من بين من استشهد الدكتور يوسف بفكره كان الدكتور إدمون ربّاط.


بعد رفع جلسات اليوم الأوّل، رأيت أن أتجوّل في محيط الفندق فبو سعيد من المواقع الشهيرة في تونس بجمالها إذ يحيط بها البحر المتوسط من جانب فيما ترتفع تلال على الجانب الآخر.


من بين من تقدّمني ببضع خطوات، كان الدكتور يوسف. توجّهت إليه وتبادلنا التحيّة. فجأة قال لي :"ألا يشبه هذا المكان جونيه؟" أجبته ببعض التعجب: "بالفعل هناك شبه. لكن قل لي هل تعرف لبنان؟ هل سبق وزرته؟". أجاب الدبلوماسي البعثي: "طبعاً. أعرف لبنان جيّداً ولي الكثير من الأصدقاء". وبدأ بتعدادهم. بعضهم من معارفي.


في إطار هذا الجوّ الودّي تشجّعت على تصحيح بعض الوقائع التي وردت في كلمته. "دكتور يوسف، استشهدت بأقوال الدكتور إدمون ربّاط. لا ريب أنّ الدكتور ربّاط له مكان طليعي بين مفكّري القومية العربية. لكن، ربما لست على اطّلاع على مواقفه حديثاً، قناعات الدكتور ربّاط باتت على نقيض ما نادى به في عقوده الأولى. ثم إنّ له برنامجاً إذاعيّاً على "صوت لبنان الحر" وهي الإذاعة الناطقة باسم أكثر التيارات اللبنانية المسيحية تطرّفاً".


تباطأت خطواته قليلاً، ثم توقّف والتفت إليّ وقال: "أنا على اطّلاع على ما تقول وأنا أيضاً أستمع إلى برنامجه الذي تبثه تلك الإذاعة".


قلت له بتعجّب شديد: "كيف يمكن لك وأنت في بغداد التقاط موجات إذاعة ضعيفة تبث من المنطقة الشرقية من لبنان وأنا الذي أقيم في منطقة المنارة في بيروت أستمع إليها بصعوبة كبيرة؟".


أجاب: "الأمر بسيط، اشتريت من مطار جنيف جهاز راديو "ديجيتال" ما يضمن لي الاستماع إلى تلك الإذاعة".


كانت تلك المرة الأولى التي أسمع بها عن جهاز "الديجيتال".


لا تخلو هذه الحادثة من دلالات:


- الدكتور يوسف شخصية فكرية ودبلوماسية مرموقة في العراق. هو من قدامى حزب البعث العربي الاشتراكي وله باع طويل في النضال حتى أنه، لقناعاته، اختار المنفى بدلاً من الإقامة في سوريا. ولا شكّ أن قيادة البعث العراقي عرفت مقدار تضحياته وجدارته الفكرية فكافأته بمنصب رفيع وسمّته لتمثيلها في المحافل الدولية.


- لكن للدكتور يوسف هوية أخرى يحرص على كتمانها ولا يكشف عنها إلّا إن اختلى إلى نفسه فيتّجه إلى حجرته، يدير "الديجيتال" ويخفض الصوت ويصغي لإذاعة تبث أنباء المسيحيين في لبنان وما يمرّون به من ضيق.


تلك صورة عن انفصام شخصية مسيحيي الشرق والتي، حتى فترة وجيزة، ما كانت لتصدق على تصرّفات مسيحيي لبنان.