منذ نيل لبنان استقلاله عام 1943، بقيت الدولة بمؤسساتها الدستورية عاجزة عن فرض سيادتها الكاملة، إذ ظلّت أسيرة توازنات طائفية وخطوط حمراء تمنعها من استكمال أي مهمة وطنية تُهدّد مصالح المحاور الداخلية والخارجية. وهكذا، كلما واجه البلد استحقاقاً مصيرياً، ارتبكت الدولة وتراجعت، تاركة الفراغ لتملأه قوى الأمر الواقع.
في عام 1958، ومع احتدام الصراع العربي بين محور عبد الناصر والمحور الغربي، انفجرت انتفاضة داخلية بقيادة كمال جنبلاط وقوى إسلامية في بيروت وطرابلس بدعم سوري–مصري مباشر، ما اضطرّ قائد الجيش آنذاك، اللواء فؤاد شهاب، إلى التريّث، خوفاً من تفكك الجيش على أسس طائفية. وبدل أن تتولى الدولة الحسم، أُجبِر الرئيس كميل شمعون لطلب تدخل الاميركيين، فنزل المارينز على شواطئ بيروت ضمن عملية “Blue Bat”، لإعادة التوازن السياسي، قبل أن يتدخّل عبد الناصر ويضغط على حلفائه لوقف التصعيد. وهكذا، أُوكِل القرار السيادي إلى الخارج.
ثم توالت النكبات. ففي مطلع السبعينيات، طُردت منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بعد “أيلول الأسود” عام 1970، فانتقل ياسر عرفات وآلاف المسلحين إلى لبنان، ليحوّلوا الجنوب والمخيمات في بيروت وضواحيها إلى قواعد عسكرية خارجة عن سيطرة الدولة. وفي عام 1976، دخلت القوات السورية إلى لبنان تحت عنوان حماية المسيحيين من المدّ الفلسطيني، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى قوة احتلال سياسي وأمني، فلعب حافظ الأسد على تأجيج الانقسامات اللبنانية ليُحكم قبضته على القرار السيادي لعقود طويلة.
عام 1982، قرّر أرييل شارون اجتياح لبنان لطرد منظمة التحرير، التي أصبحت قوة نافذة في الداخل اللبناني ومتداخلة مع الحياة السياسية والأمنية. فحصل الاجتياح، وبلغت الدبابات الإسرائيلية بيروت، وقُضي على الوجود العسكري الفلسطيني، لكن مرّة أخرى لم تكن الدولة هي من حسم المعركة، بل قوى خارجية ملأت الفراغ. ولنكون منصفين، فبالرغم من مقاومة القوى المسيحية لذلك الوجود الفلسطيني المسلّح، إلا أن هذه القوى لم تكن قادرة على الحسم في ظل تفكك الدولة آنذاك، وكان الهدف هو مجرّد البقاء على الوجود (survival).
وفي لحظة تاريخية نادرة، نجح اللبنانيون عام 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في إخراج الجيش السوري من لبنان، في مشهد سيادي جامع قلّ نظيره. كانت انتفاضة 14 آذار ذروة هذا المشهد، فأُعيد العماد ميشال عون من المنفى، وأُطلق الدكتور سمير جعجع من المعتقل، واعتقد اللبنانيون أنهم دخلوا عهد السيادة والازدهار. لكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل مع بروز “الشيعية السياسية” بقيادة حزب الله، المرتبط عضوياً بالحرس الثوري الإيراني، والذي راكم سلاحه ونفوذه مستفيداً من ضعف الدولة ووهج “المقاومة”.
في تموز 2006، خاض الحزب حرباً مدمّرة مع إسرائيل، انتهت بالقرار 1701، الذي نصّ صراحة على حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية. لكن حزب الله رفض تسليم سلاحه، واعتبر أنه فوق الشرعية اللبنانية والدولية.
ثم جاءت المحطة الأخطر: في 7 تشرين الأول 2023، أطلقت حماس عملية “طوفان الأقصى”، فقرّر حزب الله فتح جبهة الجنوب تحت عنوان “حرب الإسناد”، ضارباً بعرض الحائط إرادة اللبنانيين والقرارات الدولية، ومتجاوزاً القرار 1701. ومنذ ذلك اليوم، يعيش لبنان على وقع الاستنزاف: خروقات، ضربات، واغتيالات موضعية، تقابلها تهديدات إسرائيلية وتصعيد تدريجي، فيما الشرعية اللبنانية تلتزم بالتصريحات الاستنكارية والمواقف الكلامية، وتدور في حلقة مفرغة من التمنيات الرمادية.
صحيح أن هناك مؤشرات على أن الجيش اللبناني يعمل في بعض مناطق الجنوب وشمال الليطاني لضبط مواقع محددة، ولمصادرة أسلحة ومراقبة تحرّكات، لكن هذا الجهد، وإن وُجد، يبقى جزئياً، متردداً، ومحكوماً بتوازنات داخلية تحول دون استكمال أي حسم فعلي.
وهنا تكمن المعضلة: إذا بقي لبنان في هذه الحالة الرمادية، فإننا نعيد إنتاج مشاهد تاريخية كارثية شهدناها سابقاً: قوى تتجاوز الدولة، ودولة تكتفي بإدارة الأزمة، بانتظار أن يتدخل الخارج من جديد. لكن هذه المرة، الكلفة ستكون أقسى، لأن إسرائيل، وفق ما تُعلنه، لن تكتفي باحتواء حزب الله، بل تهدف إلى تفكيك قدراته تماماً، ما يعني أن لبنان سيبقى عرضة لضربات متتالية، تعرقل أي محاولة لإعادة الإعمار أو إعادة الثقة أو استقطاب الاستثمارات.
إن الإصرار على إبقاء السلاح خارج إطار الشرعية، وعدم الاعتراف بنتائج الحروب والقرارات الدولية ومطالب اللبنانيين الجدّية بتسليم السلاح، يعني أن لبنان سائر نحو اللا استقرار وتفككات مستمرة. وإن لم تتحمّل الدولة مسؤولياتها اليوم قبل الغد، فإننا قد نكون على موعد مع سيناريو جديد، تتدخل فيه مجدداً قوى خارجية لحسم ما عجزت عنه المؤسسات الشرعية، فنفقد ما تبقى من قرار وسيادة، ويُترك اللبنانيون لمصيرهم وسط ركام السلاح والانهيار، كما اعتدنا، لا كما نطمح.