الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ

لن تقوم دولة قويّة وديموقراطيّة من دون الاعتراف بوقتيّة الميثاق الوطنيّ

كما أنّ الأفعى التي لا تستطيع أن تغيّر جلدها تموت، فكذلك العقول التي تُمنع من تغيير آرائها؛ فإنها تكفّ عن أن تبقى عقولاً" (نيتشه)



تُثار من حين إلى حين في لبنان مواضيع مثيرة للجدل على نحوٍ يُغذّي الخطاب الطائفيّ، ويُقحم الأطراف السياسيّة في لعبة خداع متبادل، وتربط مستقبل الوضع الداخليّ بقوى خارجيّة لها نفوذها المحليّ ومصالحها الخاصّة. وإزاء هذا المشهد المتكرّر، لا يكفي البحث عن حلول ظرفيّة للمواضيع المطروحة بغية منع البلاد من الانزلاق إلى أزمات يمكن أن تهدّد السلم الأهليّ، أو المحافظة على الحدّ الأدنى من التفاهم المطلوب للسماح بعمل مؤسّسات الدولة، بل من الضروريّ إبراز النواة الصلبة التي تُنتج إطارًا مؤسسيًّا لا يسمح بقيام دولة الحقّ والقانون والسيادة والديموقراطيّة. والملاحظ في هذا الشأن أنّ المرجعيّات السياسيّة على اختلافها تُعلن جهارًا التزامها بالعمل من أجل قيام مثل هذه الدولة، في حين أنّ الآداء السياسيّ يذهب غالبًا في الاتّجاه المعاكس تمامًا.



ثمّة مسائل ثلاث حسّاسة موضع جدال حاليًّا، سبق أن أُثيرت في العقود السابقة إبّان تقاطعات حرجة مثل التقاطع الذي نعيشه اليوم، وهي: تعديل قانون الانتخابات النيابيّة، وإلغاء الطائفيّة السياسيّة، ونزع سلاح "حزب الله". ويتبيّن أنّ ردود الفعل تجاه المسألتَين الأوليّين اتّخذت سريعًا بُعدًا طائفيًّا بامتياز. فمبادرة إدخال صوتين تفضيليَّين إلى قانون الانتخابات التي يدعمها الرئيس نبيه بريّ وحلفاؤه، تواجه معارضة شديدة من قبل الأحزاب المسيحيّة، ولا سيّما حزب القوّات اللبنانيّة والتيّار الوطنيّ الحرّ اللذان يرفضان تعديل القانون الساري، ذلك أنّ دوافع التعديل تبعًا لهما سياسيّة صرف، لا تخدم المصلحة الوطنيّة. وتعتبر الأحزاب المسيحيّة أيضًا أنّ إثارة موضوع إلغاء الطائفيّة السياسيّة لا يخرج عن إطار مناورات غير شفّافة، هدفها النهائيّ شدّ العصب الطائفيّ للمحافظة على شعبيّة لعلّها تتهاوى، أو لتسجيل نقاط على الخصوم.



في ما خصّ الموضوع الثالث المتّصل بنزع سلاح "حزب الله"، فإنّ الأحزاب المسيحيّة، وبوجه خاصّ حزب القوّات اللبنانيّة، تدعم علانية موقف رئيس مجلس الوزراء نواف سلام الذي يؤكّد أنّه لن يكون هنالك انتعاش اقتصاديّ ولا استثمار مستدام في لبنان طالما أنّ قوّات الدولة المسلّحة لا تحتكر وحدها السلاح. ويفترض هذا الموقف تفكيك ترسانة "حزب الله" الذي يُعتبر شرطًا مسبقًا لإعادة تأكيد دور الدولة السياديّ في مختلف الشؤون الوطنيّة. وفي المقابل، تصرّ بعض المرجعيّات في الأوساط الشيعيّة على الحقّ في الحفاظ على مقاومة مسلّحة طالما أنّ الجيش الإسرائيليّ لا يزال يحتلّ أجزاءً من الأراضي اللبنانيّة، وهذا الحقّ يضمنه القانون الدوليّ الذي ينصّ على أنّ مقاومة الشعوب الاحتلال حقّ مشروع.



بصرف النظر عن قدرة رئيس الجمهوريّة والحكومة القائمة على إيجاد مخارج أو تسويات تقبلها مختلف الأطراف وتلاقي موافقة القوى الخارجيّة المؤثِّرة حاليًّا على الساحة الوطنيّة، فمن الثابت أنّ أيّ حلّ أو مخرج سيستند إلى صيغة تستبعد منطق الغالب والمغلوب، ويندرج في إطار مبدأ العيش معًا أو الميثاقيّة. ومن الثابت أيضًا أنّ أيًّا من هذه الحلول أو المخارج لن يكون كافيًا ليسمح بإقامة دولة قويّة، وإنشاء نظام قضائيّ مستقلّ حقًّا، وتنفيذ إصلاحات فعّالة وخالية من كلّ شكل من أشكال الفساد. ذلك أنّ نظام الحكم القائم على الميثاق يتطلّب ممارسة سياسيّة معقّدة بغية ضمان التوازن بين الأطراف الداخليّة الفاعلة والمتنافرة التي لا تشترك في تصوّر مشترك للسيادة والدولة والمصلحة الوطنيّة والخير العامّ. لذا، ليس غريبًا أن تعيش البلاد في ما يشبه الحلقة المفرغة.



كتب كمال الصليبي في العام 1989 بشأن المواضيع التي تجادل بخصوصها السياسيّون المحليّون: "على المستوى السياسيّ، بدل أن يكون مطلب العلمانيّة صادقًا، فهو أصبح مجرّد لعبة خداع بين الفرقاء المعنيّين، على مثال لعبة اللبننة السيّئة النيّة إزاء العروبة السيّئة النيّة أيضًا... فمن جهة، تدفع الأحزاب الإسلاميّة والدرزيّة إلى إلغاء الطائفيّة لصالح العلمانيّة على المستوى السياسيّ، مع علمها جيّدًا بأنّ مثل ذلك الإلغاء لن يكون ممكنًا إلاّ إذا طُبّق أيضًا على المستوى الاجتماعيّ. ومن ناحية ثانية، أدرك القادة المسيحيّون أنّ المطالبة بإلغاء الطائفيّة السياسيّة من قبل المسلمين والدروز تهدف إلى إلغاء سيطرة المسيحيّين السياسيّة على الدولة، فكانت ردّة فعلهم بأنّ العلمانيّة الحقيقيّة في لبنان لا يمكن أن تتحقّق إلاّ إذا أُلغيت الطائفيّة على المستوى الاجتماعيّ كما على المستوى السياسيّ" (بيت بمنازل كثيرة).



وفي الواقع، نجد العناصر التي تُنتج هذا العمل السياسيّ العقيم أو التي تُدخل البلاد في حلقة مفرغة، في الدستور نفسه، لا لجهة إضفاء صفة نهائيّة على ميثاق العيش معًا فحسب، إذ بات الميثاق العامل الذي يُضفي الشرعيّة على السلطة (مقدّمة الدستور-ي)، بل لأنّ طريقة صياغة الموادّ تُبقي على تركيبة قائمة على أطراف متواجهة على أساس طائفيّ. ففي حين تنصّ مقدّمة الدستور على أنّ "إلغاء الطائفیّة السیاسیّة هدف وطنيّ أساسيّ یقتضي العمل على تحقیقه وفق خطة مرحلیّة" (ح)، فإنّ المادّة 95 التي تتكلّم على اتّخاذ الإجراءات لتحقيق إلغاء الطائفيّة السياسيّة، تنصّ على إلغاء الطائفيّة أيضًا، أي لا الطائفيّة السياسيّة فقط. فالمادّة تنصّ على تشكيل هيئة وطنيّة تكون مهمّتها "دراسة واقتراح الطرق الكفیلة بإلغاء الطائفیّة". فما يبدو لبعضهم أنّ إلغاء الطائفيّة السياسيّة ضرورة دستوريّة ووطنيّة، يبدو لبعضهم الآخر أنّ إلغاء الطائفيّة هي التي تُمثِّل تلك الضرورة. ومن ثمّ يأتي الكلام على إبقاء المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين في وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها لترسّخ التنافس على الوظائف والصراع عليها انطلاقًا من خلفيّة طائفيّة.



تكمن المشكلة الأساسيّة في التمسّك الصارم بالميثاق الوطنيّ بصفته أساسًا معياريًّا لفهم الدولة وتنظيمها وحكمها. ولكن إذا كان هذا الميثاق السبيل الوحيد لتحقيق الاستقلال في أربعينيّات القرن المنصرم، فإنّه لا يصلح لخلق المواطن اللبنانيّ، وبالتالي لخلق شعب واحد له شعور وطنيّ مشترك بالانتماء إلى الدولة، ولا إلى العبور إلى دولة ديموقراطيّة قويّة.


إنّ "الإِتوس" القويّ، أي مجموعة المعتقدات والمثُل وأنماط السلوك والمعالم الثقافيّة المشتركة التي تكوّن روح الشعب، هو الذي يسمح للدولة بالتطوّر، إذ إنّه يعزّز التزام المواطنين بالمؤسّسات والقوانين والحياة السياسيّة سعيًا لتحسين خيرهم المشترك. ولكنّ هذه الديناميكيّة غير متوفّرة في نظام مثل نظامنا؛ فهذا لا يسمح، بسبب قاعدته الميثاقيّة، بتقوية "الإتوس" المشترك. فللطوائف رؤى متباينة للبلادـ تتغذّى من الممارسات الدينيّة التي تكتسب بُعدًا طائفيًّا محليًّا، ومن الخطابات السياسيّة التي تنزع إلى شدّ العصب الطائفيّ كلّما اقتضته المصالح الفئويّة والخاصّة التي تتّخذ من التمثيل الطائفيّ عباءة لها. لذا، فالبحث عن سبل تقوية الإتوس المشترك ضروريّ بل إلزاميّ لوضع البلاد على طريق الخروج من الدوامة الطائفيّة المهلكة. وفي هذا السياق، ينبغي التفكير في الإِتوس اللبنانيّ، لا بصفته ثقافة موحّدة يصعب تعريفها بسبب الحالة الطائفيّة، بل مجموعة قيم مشتركة يختبرها اللبنانيّون، ولا سيّما الشبيبة، مثل الكرامة الإنسانيّة وحريّة الضمير والتفكير والتعبير...كما واختبار آفات الطائفيّة ونتائجها الكارثيّة على الجميع. وما من شأنه أن يُطلق مثل هذه الحركة هو خطاب رسميّ صادق وشجاع، يؤكّد بوضوح على طبيعة الميثاق الوطنيّ المؤقّتة. 



*أستاذ في جامعة القدّيس يوسف