في قلب الفاتيكان، خلف جدران كنيسة السيستينا، حيث ينعقد المجمع السري لانتخاب بابا جديد، تعود إلى الأذهان المقولة اللاتينية القديمة: "من يدخل المجمع بابا، يخرج كاردينالاً". لكن، كما أثبت التاريخ، فإن المجمع غالباً ما يفاجئ الجميع. فكما لم يكن اسم البابا فرنسيس في طليعة المرشحين عام 2013، قد يكون خليفته أيضاً من خارج كل التوقعات.
اليوم، يعيش العالم الكاثوليكي لحظة مفصلية. البابا فرنسيس، الذي قاد الكنيسة بأسلوب غير تقليدي منذ أكثر من عقد، فتح الباب أمام مجمع انتخابي جديد غير تقليدي. فالمشهد مختلف كلياً عن أي وقت مضى: مجمع يضم 133 كاردينالاً ناخباً من 71 دولة، بينها 12 ممثَّلة لأول مرة، مثل جنوب السودان، هاييتي، السويد، بابوا غينيا الجديدة، لوكسمبورغ....
مشهد كنسي عالمي جديد
الكنيسة لم تعد تتمحور فقط حول أوروبا، بل تتنفس اليوم من أطراف العالم. فأوروبا تحتل المرتبة الأولى والكتلة الأكبر أو الوازنة بـ53 كاردينال رغم التراجع النسبي لصالح آسيا التي تحتل المرتبة الثانية بـ23 كاردينال ناخب، تليها أفريقيا بـ18، ثم أميركا اللاتينية بـ17. هذه الأرقام تعكس تحوّلاً ديموغرافياً ولاهوتياً عميقاً في قلب الكنيسة.
أبرز المرشحين الإيطاليين: بين التقاليد والدبلوماسية
رغم هذا التحوّل، ما زالت إيطاليا، بحكم كون البابا أسقف روما، تحتفظ بثقل رمزي. من أبرز الأسماء:
بييترو بارولين (70 عاماً): رقم ٢ في الفاتيكان خلال حبرية فرنسيس، وزير الخارجية ومهندس الاتفاق التاريخي مع الصين بشأن تعيين الأساقفة. رجل التفاوض الهادئ والبناء الطويل.
ماتيو زوبي (69 عاماً): رئيس مجلس الأساقفة الإيطاليين، وشخصية بارزة في "جماعة سانت إيجيديو" المعروفة بالحوار بين الأديان وجهود السلام.
بييرباتيستا بيتسابالا (60 عاماً): بطريرك القدس للاتين، رجل الشرق الأوسط، بخبرة تفوق الثلاثين عاماً في قلب النزاعات الروحية والسياسية، وأحد الأصوات المرموقة في قضايا غزة.
أفريقيا... الصوت الصاعد من الجنوب
أفريقيا، القارة الفتية كنسياً، تطرح مرشحين بارزين:
الكاردينال ديودونيه بيسونغو (أفريقيا الوسطى): راعٍ في أرض الصراعات، وشاهد حيّ على المصالحة والتضحية.
روبرت سارة (غينيا): رجل تقليدي صارم وصلب في مواقفه، وله حضور فكري وروحي يحظى باحترام داخل الكنيسة.
أميركا: الكلمة لرجال الأطراف
تيموثي دولان (الولايات المتحدة): كاريزما إعلامية، وله قاعدة دعم قوية بين المحافظين في أميركا.
روبرت بريفوست: أميركي الأصل خدم في بيرو، يجمع بين الحس اللاتيني والدقة التنظيمية.
جون أتشرلي ديو (نيوزيلندا): أحد أقدم الكرادلة سنّاً (77 عاماً)، قادم من أبعد عاصمة في العالم (ويلينغتون)، لم تمنعه المسافة ولا العمر من السفر ثلاثين ساعة للمشاركة في المصير الكنسي.
آسيا تتقدّم... وتاغلي في الواجهة
لويس أنطونيو تاغلي (الفلبين): يُلقّب بـ"فرنسيس الآسيوي"، ويُعتبر أحد أبرز الأصوات الإصلاحية في الكنيسة. معروف بدعمه لقضايا الفقراء والمهاجرين. شغل منصب رئيس مجمع تبشير الشعوب، وكان رئيس كاريتاس الدولية. يتمتع بحضور كنسي عالمي وبدعم من تيّار "فرنسيس"، ما يجعله مرشحاً قوياً للبابويّة.
فرنسا تدخل السباق: الكاردينال بوستيو
رغم أنه لم يُذكر كثيرًا في الإعلام، إلا أن فرانسوا-كزافييه بوستيو (فرنسا) يُعد من الأسماء الجديرة بالاهتمام. وُلد في بامبلونا، إسبانيا، عام 1968، وترعرع في بيئة فرنسيسكانية. عُيّن أسقفاً لأجاكسيو في كورسيكا عام 2021، وأصبح كاردينالاً في سبتمبر 2023. يُعرف بأسلوبه الرعوي الديناميكي وموقفه المتوازن بين التقليد والتجديد. يتمتع بحضور كنسي متواضع لكن مؤثر، وهو من الشخصيات الصاعدة في الكنيسة الفرنسية، وقد أبدى تحفظاً على ردود الفعل السطحية تجاه وثيقة "Fiducia supplicans"، التي فتحت الباب أمام بركة الأزواج المثليين. وأكّد أن التعامل مع مثل هذه القضايا يجب أن يكون بروح رعوية تراعي الألم، لا عبر مواقف انفعالية "مع" أو "ضد".
ماذا بعد فرنسيس؟
اختيار البابا القادم لن يكون مجرد قرار لاهوتي أو إداري، بل لحظة ستحدد وجه الكنيسة في العقود القادمة: هل تستمر مسيرة الانفتاح واللاهوت التقدميّ التي أسس لها فرنسيس؟
أم تعود الكنيسة إلى مواقف أكثر تحفظاً وسط عالم يشهد اضطرابات دينية وسياسية واجتماعية؟
ما هو أكيد أن الكنيسة الكاثوليكية، بهذه التركيبة العالمية، تقف أمام مفترق طرق تاريخي. والبابا القادم، أياً كان اسمه أو جنسيته، سيحمل على عاتقه ليس فقط تقاليد ألفي عام، بل آمال مليار ونصف مؤمن حول العالم، من روما حتى أدغال أفريقيا، ومن أميركا اللاتينية إلى قرى آسيا النائية.