أنطونيو رزق

ترامب يُرحّل طلّاباً أجانب ويتحدّى الجامعات

"طوفان الأقصى" يزلزل "الأكاديميا الأميركية"

لم تعد جامعة "كولومبيا" مكاناً مباحاً لمثيري الشغب (رويترز)

بعد عملية "طوفان الأقصى" وبداية الحرب الإسرائيلية المستمرّة على "حماس" في غزة، تعاطف طلّاب الجامعات في عدد من الدول الغربية مع الغزيين الذين يعيشون في دوّامة من القتل والدمار والنزوح. لذا تظاهر الطلّاب ضدّ الحملة العسكرية على القطاع الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى موقع هدم. وشكّلت الجامعات الأميركية المرموقة كـ "هارفارد" و "كولومبيا" المسرح الرئيسي لتلك الاحتجاجات والاعتصامات التي جنحت إلى أعمال شغب وعنف شملت استهدافاً عنصرياً للطلّاب اليهود وتعطيل الأعمال في الجامعات واحتلال مبانٍ فيها، فضلاً عن تحوّل شعارات التظاهرات من تعاطف إنساني محقّ مع الغزيين ومطالبة بوقف الحرب، إلى تمجيد ميليشيات مصنّفة "تنظيمات أجنبية إرهابية" في أميركا، مثل "حماس" و "حزب اللّه".


لم تحسن إدارة بايدن آنذاك التعامل مع الشغب الممنهج في الجامعات، إذ امتنعت عن الضغط على إداراتها التي فشلت في المحافظة على الأمن في حرمها، بحيث جرى مثلاً احتلال مبنى في "كولومبيا" من قبل المشاغبين واحتجاز عمّال نظافة لساعات فيه قبل أن تسمح الجامعة للشرطة بالتدخل، بالإضافة إلى تقاعسها عن حماية الطلّاب اليهود الذين رفض الكثير منهم الحضور إلى الحرم خوفاً من هجمات انتقامية، فيما مُنع البعض منهم من الدخول إلى الجامعة من قبل المشاغبين، الأمر الذي تسبّب في أعمال عنف متبادلة بين الطرفين. أدّى سوء الإدارة الفادح من قبل بعض الجامعات إلى استقالة عدد من رؤسائها، منهم رئيستا "هارفارد" و "كولومبيا" السابقتان، خصوصاً بعد أجوبتهما المخزية خلال استجوابهما الناري الشهير من قبل النائبة إليز ستيفانيك في الكونغرس.

تعهّد الرئيس دونالد ترامب خلال حملته الرئاسية بمعالجة الأسباب البنيوية التي شكّلت الفوضى في الجامعات عارضاً من أعراضها، وذلك عبر ترحيل الطلّاب الأجانب الذين شاركوا في أعمال الشغب أو أبدوا علناً تأييدهم وتعاطفهم مع منظمات مصنّفة إرهابية، والضغط على الجامعات العريقة لإجراء تغييرات جذرية في إداراتها ومدرّسيها ومناهجها وآلية قبول الطلّاب لديها. تحوّلت الكثير من الجامعات في العقود الأخيرة من مؤسّسات تركّز بصورة أساسية على تلقين الشباب المعرفة والتفكير النقدي في اختصاصاتهم، إلى "ثيوقراطيات يسارية" تنهل من مدرسة فكرية نيوماركسية راديكالية، ما جعلها تعتمد آلية عنصرية وسياسية في نظام قبول الطلّاب والمدرّسين والإداريين لديها. فأعطت أفضلية كبيرة للطلّاب ذوي عرق أو جنس أو توجّه جنسي أو دين معيّن على حساب آخرين، خصوصاً على حساب الرجال البيض والآسيويين، بينما جرى تطهير وجود المدرّسين والإداريين ذوي التوجّهات اليمينية، ما جعل تلك الجامعات بمثابة "غرفة صدى" لا تقبل نقداً لأيديولوجيّتها، التي سمحت لمعاداة السامية وكراهية الغرب والبيض بالانتشار بكثافة في الأكاديميا.


بالفعل، اتخذ ترامب خطوات عدّة لإعادة انتظام الحياة الجامعية في البلاد، فكلّف وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي ماركو روبيو بمهمة سحب تأشيرات الطلّاب الأجانب المشاغبين والمتعاطفين مع منظمات مصنفة إرهابية، الأمر الذي شرع روبيو في تنفيذه من دون تأخير، حيث جرى احتجاز عدد من الطلّاب الأجانب تمهيداً لترحيلهم. وأثارت قضية الفلسطيني محمود خليل، الذي تخرّج حديثاً من "كولومبيا"، الكثير من الاهتمام، إذ رغم حيازته إقامة دائمة "غرين كارد" وليس تأشيرة طالب، احتُجز بانتظار ترحيله، الأمر الذي يجري بتّ مدى قانونيّته في القضاء.


انتقد كثيرون سياسة ترحيل الطلّاب، معتبرين أنها تنتهك حرّية التعبير المكرّسة في دستور البلاد. كما حذّرت بعض الشخصيات اليمينية من ارتداد هذه السياسة على الطلّاب الأجانب ذوي التوجّهات اليمينية في المستقبل في حال وصلت إدارة يسارية إلى السلطة. لكن روبيو حسم أن للإدارة سلطة استنسابية واسعة في رفض أو سحب تأشيرة دخول إلى البلاد، موضحاً أنه عندما تمنح الإدارة لطالب تأشيرة، فإنها تتوقع منه أن يستغلّها للدراسة وليس للمشاركة في أعمال شغب في الجامعة وتمجيد منظمات مصنفة إرهابية، لذا في حال فعل ذلك، لها كامل الحق في سحب تأشيرته وترحيله.


توازياً، يضغط ترامب بشكل عنيف على الجامعات بهدف إنهاء آلية قبول الطلّاب القائمة على سياسة "التعددية، المساواة، الاندماج" العنصرية والقضاء على الأحادية الفكرية السائدة فيها وحضها على التعامل بحزم مع مثيري الشغب في حرمها، بحيث جمّد أو ألغى مليارات الدولارات من المنح الفدرالية لعدد من الجامعات، منها "هارفارد" و "كولومبيا"، اللتين تعاملتا مع ضغوط ترامب كلّ على طريقتها. وافقت "كولومبيا" على عدد من مطالب الرئيس، منها اتخاذ خطوات لتعزيز التنوّع الفكري وحظر الأقنعة ومنح 36 من أفراد شرطة الحرم الجامعي صلاحيات جديدة لاعتقال الطلّاب، وتعيين نائب أوّل للرئيس يتمتع بسلطات واسعة للإشراف على قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى مركز دراسات فلسطين، حسب صحيفة "وول ستريت جورنال".


يبدو أن التغييرات التي تعمل عليها "كولومبيا" بدأت تثمر نتائجها، إذ بعدما احتلّ طلّاب ملثّمون بأقنعة وكوفيات المكتبة الرئيسية في الجامعة الأربعاء الفائت، تدخلت شرطة نيويورك سريعاً بناء على طلب الجامعة واعتقلت 78 شخصاً، وجزمت القائمة بأعمال رئيسة الجامعة كلير شيبمان بأنه "لن يجري التسامح مع أي تعطيل لأنشطتنا الأكاديمية، ويُعدّ ذلك انتهاكاً لقواعدنا وسياساتنا"، في حين كشف روبيو أنه "نراجع وضع التأشيرات للمخرّبين والمتسلّلين الذين استولوا" على مكتبة "كولومبيا"، حاسماً أن "البلطجية المؤيّدين لـ "حماس" لم يعودوا موضع ترحيب في أمّتنا العظيمة".


في المقابل، لا تزال "هارفارد" رافضة مطالب ترامب، ووصل التصعيد بين الجانبَين إلى القضاء، إذ رفعت "هارفارد" دعوى قضائية تهدف إلى إبطال قرار ترامب تجميد أو إلغاء منح بحثية بمليارات الدولارات للجامعة، الأمر الذي دفع الرئيس الجمهوري إلى التلويح بإلغاء حال الإعفاء الضريبي الذي تتمتّع به "هارفارد" كسائر المؤسسات التعليمية في البلاد، إنما اعتبر رئيس الجامعة آلان غاربر أنه في حال نفّذ ترامب تهديده، فإنه سيكون قد ارتكب مخالفة قانونية جسيمة، مشيراً إلى أنه يوافق على ضرورة تنفيذ بعض المطالب التي يتحدّث عنها الرئيس، لكنه يرفض طريقته في إملاء كيفية تنفيذها.


لم يقتصر تجميد المنح البحثية وإلغاؤها على "هارفارد" و "كولومبيا"، بل طال ذلك العديد من الجامعات، الأمر الذي أثار مخاوف من التداعيات التي قد تلحق بتطوّر قطاعات مختلفة في البلاد، أبرزها القطاع الطبي الذي يحتاج بشدّة إلى الأعمال البحثية والعلمية لتطوير أدوية ولقاحات وتقنيات طبية جديدة. كما هناك قلق حقيقي من أن يؤثر ذلك على مكانة أميركا على الساحة الدولية، إذ تعتمد قطاعات أساسية مختلفة على الأعمال البحثية والعلمية للحفاظ على تفوّق البلاد على غريمتها الاستراتيجية الأولى، الصين، التي تدعم الجامعات لديها بشكل كبير.


كذلك، من الممكن أن يؤدّي شحّ الأموال لدى الجامعات الأميركية إلى خسارة أميركا دورها الريادي في استقطاب الأدمغة من أنحاء العالم. هذا الدور تطمح كثير من الدول إلى لعبه، أبرزها فرنسا، إذ أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبّية أورسولا فون دير لاين أن جامعة "سوربون" ستستثمر ملايين الدولارات لجذب العلماء إلى مؤسّساتها، موضحين أن البرنامج، الذي يحمل اسم "اختر أوروبا من أجل العلم"، سيستثمر نصف مليار يورو لدعم "أفضل وألمع الباحثين والعلماء من أوروبا ومن أنحاء العالم" حتى عام 2027.