وائل خير

صفحة من تاريخ لبنان انعكست

جيل يكاد يمضي كان ضحية تعاقب ثلاثة أحداث خلال خمس سنوات قوّضت الكثير من المفاهيم التقليدية، واستبدلتها بأخرى من ضمنها الإلحاد. في العام 1965 اختتمت أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني وأعلنت مقرّراته. في أيار 1968 انتفض طلّاب في باريس لمدة شهرين تاركين آثاراً ما زالت تفعل بأشكال متعدّدة عبر القارات. ثم في العام 1970 نقلت منظمة التحرير الفلسطينية قيادتها ومقاتليها من الأردن إلى لبنان.


أقرّ المجمع الفاتيكاني الثاني انفتاح الكنيسة الكاثوليكية على سائر الأديان فكان على أتباعها مدّ الجسور مع المسلمين فانطلق حوار بين مسيحيي لبنان ومسلميه هو الأول في التاريخ.


من ملامح تلك الفترة إنشاء الجامعة اللبنانية. قيام جامعة وطنية أتاح للمرة الأولى لآلاف اللبنانيين الحصول على شهادات عليا بمتطلّبات محدودة وبأقساط زهيدة ثم إنّ الجامعة بحاجة إلى أساتذة فابتدأت الدولة بإرسال بعثات للتحصيل العلمي العالي، فصدف أن تزامن ذاك الإجراء مع انتشار أفكار الحركة الطلابية في فرنسا. وبعد زمن يسير، باتت الجامعة اللبنانية مركزاً رئيسياً للفكر اليساري.


لعبت الجامعة اللبنانية وما زالت، دوراً اجتماعياً إلى جانب مهامها التعليمية. طوائف لبنان تتجاور ولا تتخالط إلّا للضرورة. كان خروجاً عن ذاك العرف إتاحة الجامعة مساحة تعارف واختلاط طوال أعوام الدراسة ويؤسّس لما بعدها. ذاك كان حدثاً تاريخيّاً أتاح للمرة الأولى فرصة لآلاف الشبان والشابات للمجاورة، فالتعارف فالمودّة وأحياناً الزواج.


بنية لبنان وصراعات مكوّناته جعلته جنّة للمجموعات الفلسطينية التي حوّلت بيروت إلى عاصمة فعلية لها كما أن النظام المصرفي اللبناني كان مثالياً لتحويل الأموال. ثم علينا إضافة امتياز انفرد به الفلسطينيون إذ لم يكن في سجلّهم عام 1970 ما يسيء إلى سمعتهم كما تمّ لاحقاً. كانوا شعباً أخرج من وطنه عنوة ومن الطبيعي والعدل أن يتضامن معه كلّ ذي ضمير ليعينه على استعادة حقوقه.


وجود المقاومة في لبنان أتاح لها الخروج من بوتقة إسلامية ضيقة وسمتها لتعود إليها بعد خروجها منها. منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) أسّست في غزة من قبل فلسطينيين يعيشون في مصر وينتمون إلى "جماعة الإخوان المسلمين". انتقالهم من غزة إلى أجواء الأردن الأوسع، فتح لهم آفاقاً بلغت ذروتها في سنيّهم في لبنان، كما حرّر المسيحيين بينهم من الأجواء الإسلامية الضيقة التي عانوا منها وإن لم يفصحوا، ما مكّن المسيحيين بين قياداتهم من تنظيم مقاومة وطنية يسارية المنحى لكن ليست إسلامية فكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومن بعدها الجبهة الشعبية الديمقراطية إلى جانب شخصيات مستقلة مسيحية: (جورج حبش، نايف حواتمة، وديع جحداد، غسان كنفاني، حنان عشراوي، منير شفيق (اهتدى في ما بعد). لعب هؤلاء دوراً في الترويج وجذب مثقفين مسيحيين لبنانيين إلى النضال لأجل تحرير فلسطين.


كيف تعامل المسيحيون مع هذا المدّ غير المسبوق؟


رؤساء الكنائس دون استثناء كانوا وراء مطالب الفلسطينيين. لكن أعمال العنف حدت بالبعض إلى كبح الجماح. التزم جميع رؤساء الكنائس جانب الحذر وعملوا على التهدئة. الدرجة الثانية بينهم، المطارنة والأساقفة، كانوا أعلى صوتاً في تأييد الكفاح المسلّح الفلسطيني دون أن يعيدوا النظر عندما تحوّلت البنادق إلى صدور المسيحيين. أما الكهنة فكانوا، إجمالاً، صدى بيئاتهم الاجتماعية.


ما لا سابق له هو إسراف الكثير من رجال الدين، الأساقفة خاصة، في استعارة اصطلاحات وتعابير وصور مستلّة من الفكر اليساري والماركسي ربّما لرواجها، أو لقصور في إدراك مرامي من صاغها ومن يروّجها. كما أن الكثير من رجال الدين المسيحيين استشهدوا بآيات قرآنية في كتاباتهم ومواعظهم والسبب، كما لا يخفى، ليس لعدم وجود ما يماثلها في كتبهم، بل استجداء لا يليق بمسيحيّ حق. هذا إلى جانب ما انتشر عن لقاء لرؤساء مسيحيين في البقاع لمباركة "حزب اللّه" وفتاة مسيحية غطّت شعرها وتعبّدت بخشوع أمام تمثال قاسم سليماني. ناهيك براهبات يتلون الفاتحة في تعزية قيادي في "حزب اللّه" باستشهاد ابنه.


يبدو، نقول يبدو، إذ إننا ما زلنا بعيدين من اليقين، أنّ ما يزيد عن نصف قرن من ذلّ ذميّة صاخبة للمسيحيين حلّت محلّ ذلّ ذميّة صامتة منذ الفتوحات، قد انطوى لا بل انعكس مساره. بدلاً من أن نقرأ لمسيحيين يستعيرون صوراً ماركسية وإسلامية، نرى علمانيين يدافعون بحماسة عن المسيحيين في القدس وأورشليم والناصرة وبيت لحم فيما كان من تقدّمهم يفضلون "إيلياء" على القدس إذ وردت في الحجة العمرية. وهناك أخيراً  قائد شيوعي، أنقاهم نسباً في الحزب، يردّد أقوال المسيح ويدافع عن المسيحيين دون أي اقتباس، على ما قرأت، لماركمس أو إنجلز أو لينين.


سبحان مغيّر الأحوال.