شربل صيّاح

المناصفة بالتمثيل أم الفعالية؟ نحو إدارة حديثة لبيروت

يُطرَح مبدأ المناصفة في بلدية بيروت، في معظم النقاشات حول التوازن، كمبدأ لا يُمَس، ويُقدَّم وكأنه المرجعية العليا والشعار الأهم في كل استحقاق، بما في ذلك الاستحقاق البلدي. وهو طرح لا يخلو من وجاهة نظرية في السياق اللبناني العام، إذ تُعدّ المناصفة جزءًا من التسوية الوطنية الكبرى التي أقرّها اتفاق الطائف، والتي هدفت إلى تحقيق التوازن بين مكونات المجتمع اللبناني، وحماية السلم الأهلي ضمن دولة موحدة.

لكن، وإذ نُقِرّ بأهمية المناصفة من دون مهاجمتها أو الانتقاص من قيمتها، يبرز سؤال دقيق: هل تصلح المناصفة، بصيغتها السياسية، لتكون معيارا عمليًا لإدارة العمل البلدي في مدينة مثل بيروت؟


بلدية بيروت، بصفتها إطارًا إداريًا وتنمويًا، لا تُعنى بصياغة هوية وطنية، ولا بصناعة القرارات السيادية، ولا برسم السياسات العامة للدولة. دورها بطبيعته تخطيطي، تنفيذي، خدمي، هدفه تحسين ظروف الحياة اليومية لسكان العاصمة، وتقديم الخدمات بكفاءة وشفافية. وعليه، فإن إسقاط مبدأ المناصفة، بوصفه معادلة سياسية عليا، على مستوى محلي خدمي، قد يُفضي إلى تعطيل العمل البلدي بدل تعزيز التوازن فيه. فحين تُخاض الانتخابات أو تُدار المؤسسات المحلية على قاعدة توازنات وطنية أو طائفية، تصبح كل خطوة موضع تأويل، وكل قرار "رسالة سياسية"، وكل مشروع "ورقة تفاوض"، بدل أن يكون مجرد خدمة عامة للمواطن.

إن الإصرار على إخضاع بيروت، بكل أحيائها المتنوعة، لنموذج بلدي مركزي واحد تُطبَّق فيه المناصفة كما لو أنه مجلس نواب مصغّر، يجعل إدارة المدينة رهينة للخطاب السياسي والمناورات الطائفية. لكن ما تحتاجه بيروت اليوم ليس توزيعًا رمزيًا للمواقع ولا توازنًا في الأسماء، بل فعالية إدارية وإنمائية تُلبّي حاجات السكان في المصيطبة كما في الأشرفية، في المزرعة كما في الصيفي، في الطريق الجديدة كما في رأس بيروت.

من هنا، يصبح التفكير في نموذج لا مركزي لإدارة العاصمة ليس خطوة تفكيكية، بل خيارًا عقلانيًا، إداريًا، واقعيًا، وأخلاقيًا. فاللامركزية لا تلغي المناصفة، بل تحيّدها عن المواقع التي تُعطّل الفعالية. إنها تتيح لبيروت أن تُدار عبر أكثر من بلدية، أو عبر تقسيم إداري مدروس، بحيث تتمكّن المناطق المختلفة من إدارة شؤونها اليومية والخدماتية، مع الحفاظ الكامل على وحدة العاصمة القانونية والرمزية. ولا شيء في اللامركزية، إذا حُسن تطبيقها، يُهدد وحدة بيروت أو يُخلّ بتوازنها، بل يعيد توزيع القرار بما يُشعر المواطن أن صوته مسموع، وأن حاجاته هي الأولوية، لا مجرد ورقة في صراع سلطوي عامودي.


السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح اليوم ليس: هل نُبقي على المناصفة أم نتخلّى عنها؟ بل: هل نخضع كل استحقاق بلدي محلي لميزان وطني عالي الحساسية، أم نمنح العاصمة إدارة مرنة وحديثة تتكيّف مع حاجات الناس؟


هل الأفضل أن نخوض كل انتخابات بلدية في بيروت على قاعدة توازن القوى الطائفية، أم على أساس التنمية، والمحاسبة، والمشاركة المباشرة، والنتائج الملموسة؟


بيروت لا تطلب أكثر من حقها في إدارة عقلانية تتجاوز الفكرة الرمزية للتمثيل، إلى الفكرة العملية للخدمة. لا مركزية العاصمة ليست مشروع فصل، بل مشروع تحديث. ليست نسفًا لفكرة العيش المشترك، بل تكريسًا لها في تفاصيل الحياة اليومية، عبر إدارة تُشبه الناس، وتخدمهم، وتُحاسب أمامهم.


أما السؤال الأهم: هل المناصفة التي نفرضها في النصوص، متوفّرة في النفوس؟ هل فرضها في اللوائح يضمنها ويعزّزها؟ وهل فرضها من فوق يعزّزها من تحت؟


في هذا السياق، من المفيد التوقف عند ما قاله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في قمة الرياض، حين وصف لبنان بأنه "باريس الشرق الأوسط". وإن كانت العبارة قد وردت في سياق إعجاب رمزي، فمسؤوليتنا أن نحيلها إلى واقع، لا أن نبقيها شعارا.


فلْتكن بيروت فعلا مدينة نموذجية في اللامركزية، على غرار الدوائر الباريسية. مدينة تنبض بالإدارة الرشيدة، تستقطب أنظار عواصم القرار لا بوصفها ساحة صراعات، بل نموذجًا يُحتذى في إدارة المدن الحية، العادلة، والفعّالة. فلتكن بيروت بحقّ، أمّ الشرائع، ومنارة في التنظيم والخدمة، لا مجرد صورة ماضوية معلّقة على جدران الحنين.