ريتا عازار

بين قديس وامرأة بسيطة

الصلاة حين تفتح باباً لا يُغلق

في عالمٍ مثقلٍ بالضجيج والصور والسرعة، تبقى الصلاة لغة صامتة شبه منسيّة. لكنّها، لمن يسلّم نفسه لها، عبور نحو الجوهر. القديس شربل مخلوف، الناسك الماروني في القرن التاسع عشر، هو من القلائل الذين جعلوا من الصلاة ليس مجرد ممارسة، بل تنفّس. إرثه الصوفي، الذي لم ينطفئ بعد وفاته في العام 1898، يجد صداه العميق في شهادة نهاد الشامي، تلك المرأة اللبنانية البسيطة الطيّبة التي شُفيت بمعجزة في العام 1993. ما يجمع بين الناسك القديس والمرأة الطيّبة ليس فقط المعجزة، بل الصلاة كتجربة تحوُّل، كجسر بين الإنسان واللامتناهي.

لم يكن القديس شربل في الواجهة، لم يلقِ خطباً رنانة، ولم يخض معارك ظاهرة، اختار الخفاء. عاش 23 سنة في قلّاية صغيرة في محبسة عنّايا. نادراً ما كان يتكلّم. يُقال إنه كان يصلي ما يصل إلى عشرين ساعة في اليوم. لم تكن الصلاة عنده عملاً محدّداً بالوقت، بل كانت اتّحاداً باللّه.


واحدة من القصص المعبّرة أنه خلال قدّاسٍ كان يقيمه، دخل في تأمّل عميق لدرجة أنه نسيَ المكان والزمان ومَن حوله. وفي يومٍ ثلجيّ، وجده الرهبان راكعاً، متجمّداً، لكنّ وجهه يشعّ نوراً. لم يكن موجوداً هنا؛ كان قد دخل إلى عالمٍ آخر، إلى الصلاة كعالم بديل.


الصلاة لم تكن هروباً من العالم، بل تقدمةً له. كان يحمل كلّ يوم، بِصَمته العميق أوجاع العالم، فأضحت الصلاة عند شربل طريقة محبّة بلا كلام، وشفاء بلا لمس.

في عالمنا اليوم، حيث التواصل سريع ومضطرب، يشكّل شربل دعوة للبطء، للعمق، للعودة إلى الذات. لم يكن صمته عجزاً عن الكلام، بل كان صراخاً داخلياً صاعداً نحو اللّه.


نداء رجاء

نهاد الشامي، في عام 1993، لم تكن صوفيّة. كانت أمّاً لأسرة كبيرة، امرأة عادية تعاني من شلل بسبب جلطة دماغية. لم يفلح معها أيّ علاج، كانت طريحة الفراش، معتمدة على غيرها، متعبة روحاً وجسداً. لكنّها كانت تصلّي. ليست صلاة ميكانيكية أو يائسة، كانت تقول: "كنت أكلّم شربل كأخ. وقلت له: إمّا تشفيني، أو خذني".


في ليلة 22-23 كانون الثاني من ذلك العام، رأت في حلمها راهبَين يقتربان منها. قال أحدهما: "جئت لأقوم بعملية جراحية". شعرت بشقَّين في عنقها، ونهضت وقد شُفيت. كان هناك أثران لجروحٍ حقيقية في عنقها، بطول 12 سنتيمتراً. الطبيب الذي تابع حالتها أكد أنها لم تخضع لأي عملية، ومع ذلك، تمّت العملية بجراحٍ غير مرئية.

قوّة هذه المعجزة لا تكمن فقط في بعدها الخارق للطبيعة، بل في علاقة الصلاة الحيّة التي سبقتها. لم تكن المعجزة ضربة حظ؛ بل كانت ثمرة علاقة روحية حقيقية، عميقة، مليئة بالثقة. الصلاة هنا لم تكن فقط ملجأ، بل كانت المكان الذي نزلت فيه النعمة.


الصلاة في وجه الحداثة

في الثقافة اللبنانية المعاصرة، تبدو الصلاة حاضرة في كل مكان - في الأقوال، في العادات، في الأغاني – لكنها تحت خطر السطحيّة. مثال القديس شربل ونهاد الشامي، يأتي ليذكّرنا أنّ الصلاة ليست طقساً فارغاً، بل ناراً حيّة. إنها تربية بطيئة للقلب. الصلاة تُعلّم الصبر في زمن السرعة، توقظ الرحمة في زمن الأنانية، تبني العلاقة في زمن الفردية. وقبل كل شيء، تمنح الإنسان المعاصر – الممزَّق بالشك والتوتر والعبث – بوصلة داخلية. كما يقول الفيلسوف لويس لافيل: "الصلاة ليست مونولوجاً، إنها حضور لحضور آخر".


القديس شربل ونهاد الشامي ليسا من الماضي. إنهما يُجسّدان حقيقة مشتعلة: الصلاة ما زالت اليوم تشفي وتُحوّل وتُوَحّد. ليس لأنها سحر، بل لأنها حقيقة. إنها المساحة المقدّسة التي يلتقي فيها الإلهي بالإنساني، لا في العجائب الخارجية فقط، بل في العمق الشخصي.


والثقافة اللبنانية، إذ تكرّم هاتين الشخصيّتين، لا تحتفل بخرافة، بل بذاكرة حيّة: ذاكرة شعب يؤمن، رغم الجراح، أنّ القلب إذا توجّه نحو اللّه، تحدث فيه معجزة. وفي زمن خسر فيه الإنسان صوته الداخلي، ربما تكون الصلاة، أكثر من أي وقت مضى، أصدق جواب.


البُعد الفلسفي للصلاة

من منظور فلسفي، يمكن اعتبار الصلاة فعلاً مناهضاً لزمن الاستهلاك والسطحية. إنها لحظة صدق نادرة، يعود فيها الإنسان إلى هشاشته، إلى سؤاله الأول: لماذا أنا هنا؟ إلى من أتحدث؟ من يسمعني؟ هذه الأسئلة لا تجد لها أجوبة في وسائل التواصل أو في الأسواق أو في الأيديولوجيات، بل في لحظة لقاء داخلي، صادق، مع المطلق.


يقول الفيلسوف الفرنسي غابرييل مارسيل: "الصلاة هي الحضور الكامل للكائن أمام الغياب الكامل للعالم". بهذه الروح، كان شربل يصلّي: ليست الصلاة انسحاباً من العالم، بل مواجهة له من موقعٍ آخر، مواجهة بالمحبة، بالرجاء، بالنور.


الصلاة قوة

اليوم، يُعاني كثيرون من القلق، الاكتئاب، والضياع، ويتوجّهون إلى العلاجات النفسية أو العقاقير. لكنّ أحداً لا يستطيع أن يُنكر أن الصلاة الصادقة، إذا ما مورست بعمق، يمكن أن تكون مصدر شفاء حقيقي. إنها لحظة يلتقي فيها الإنسان مع ذاته، يتخلّى عن كبريائه، يعترف بضعفه، ويستمدّ قوة جديدة.


نهاد الشامي، قبل أن تُشفى جسدياً، شُفيت داخلياً، كانت صلاتها طريقاً إلى المصالحة مع ذاتها، مع صعوبات يومياتها ومع آلامها، ومع اللّه. وهذا الشفاء الداخلي هو ما فتح الباب أمام المعجزة الكبرى.


الصلاة ليست رفاهية روحية، بل ضرورة إنسانية. في زمنٍ فقد الإنسان فيه مرآته الداخلية، تأتي سيرة القديس شربل وتجربة نهاد الشامي لتذكّراننا أنّ العودة إلى اللّه، إلى الصمت، إلى القلب، ليست استسلاماً، بل صعوداً.


القديس شربل لا يزال حيّاً، ليس فقط بمعجزاته، بل بشكل خاص بروحه التي تعلّمنا كيف نكون حاضرين حقاً. ونهاد الشامي، بصوتها الهادئ وشهادتها الصادقة، ذكّرتنا أن المعجزات تبدأ حين نُصغي.


إلى السينما قبل الرحيل

القصة التي بقيت حبيسة الإيمان الشعبي لعقود، وجدت طريقها أخيراً إلى الشاشة الكبيرة. فيلم المخرج سمير حبشي "نهاد الشامي – للإيمان علامة" الذي انطلق عرضه في الصالات في 27 آذار الماضي ليس فيلماً دينياً تقليدياً، بل توليفة دقيقة بين السيرة والتوثيق والدراما النفسية.


كتب السيناريو علي مطر، عُرض الفيلم في بيروت ومناطق عدة، وتراوحت ردود الفعل بين دموع الحضور وصمت مهيب. البعض رأى فيه "توثيقاً لمعجزة"، وآخرون وجدوا فيه مرآة لخلاص جماعي في وطن يفتقد للفرح.


طريق الصحراء

في كتابه "طريق الصحراء" (1956) كتب الأب الفيلسوف ميشال الحايك: "القبر لم يسكته، لا يزال جسده الميت حيّاً أكثر من أحياء كثيرين. لا تزال عيناه المغلقتان ترانا. وصمته يعلّمنا. شربل لا يُقاس بزمانه. خرج من الزمن كي يكون لنا في كل وقت علامة".


في هذه الكلمات، يبدو الأب ميشال حايك كأنه يتنبّأ بروحانية القديس شربل الحيّة بعد موته. فعندما اختبرَت نهاد الشامي الشفاء العجيب من شللها، لم يكن الحدث مجرد أعجوبة جسدية، بل علامة لاهوتية ونداء للارتداد، كما أرادها شربل. نهاد لم تطلب معجزة استعراضية، بل طلبت شفاءً في الطاعة الكاملة لمشيئة اللّه. وهنا نجد الصدى العميق لكلام الأب حايك: فشربل ما زال "يرانا"، ويتدخل بصمته المصلّي، في اللحظة المناسبة.


الأب ميشال حايك لم يكن بحاجة إلى أعجوبة ليؤمن أنّ شربل حيّ، لكنه عرف أنّ الشفاءات الآتية من شربل ليست إلّا ترجمة لصمته الإلهي الذي يلمسنا. أما نهاد، فكانت مثل كثيرين من البسطاء الذين وصلوا إلى اللّه من خلال ثقة كاملة، فتحوّل جسدها إلى رسالة حيّة تكرّس ما أعلنه حايك في فكره.


في 14 أيار 2025، رحلت نهاد الشامي، موتها جاء كخاتمة روحية لفيلم امتدّ خارج الشاشات، لم تكن نهايتها موتاً بل اكتمال رواية، وكأن القديس شربل الذي منحها الحياة، أغمض عينيها بعد أن أتمّ الرسالة.