في أوّل تجربةٍ روائيّةٍ له، يُقدّم المُخرج الدّنماركي- الفلسطيني مهدي فليفل رؤية دراميّة حادّة عن حياة اللّاجئين الفلسطينيّين في أثينا، مُسلّطاً الضوء في فيلمه «To A Land Unknown» على قضايا المنفى، الهويّة والانهيار الأخلاقي تحت وطأة البؤس واليأس. وتدور أحداث الفيلم حول شخصيّتي شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صبّاح)، وهما ابنا عم من مُخيّمات اللاجئين في لبنان، يُحاولان جمع المال للهرب إلى ألمانيا وبدء حياةٍ جديدة.
بينما يظهر شاتيلا كشخصية صارمة ومُصمّمة، يُعاني رضا من الإدمان والتشتُّت، ما يضع علاقتهما في اختبارٍ دائم. وعندما يفقد رضا مُدخّراتهما بسبب إدمانه، يُقرّر شاتيلا الدّخول في عالم تهريب البشر عبر خطّةٍ محفوفة بالمخاطر تتضمن صبيّاً فلسطينيّاً يبلغ من العُمر 13 عاماً، يُدعى مالك ويبحث بدوره عن الخلاص!
الهويّة على أرصفة المنفى
في ظل الحروب والظروف البائسة التي نمت في منطقتنا وفي شمال أفريقيا، كثُرت أفلام (ومسلسلات) اللّجوء التي يكتفي معظمها برواية المعاناة، الّا أنَّ فيلم «To A Land Unknown» يسبُر أغوار الوعي المُجتمعي المُشرَّد ويُعرّي هشاشة الإنسان المنفي من وطنه وجسده على حدّ سواء. ويختار هنا المُخرج مهدي فليفل، المعروف بأفلامه الوثائقيّة، خوض غمار الفيلم الرّوائي الطّويل ولكن بأدواتٍ بصريّة تظل وفيّة لروح الوثائقي، بين التقشّف، الواقعيّة والبُعد الحميمي.
فلقد اختار تصوير بعض مشاهده بكاميرا 16 ملم، ما يُضفي خشونةً على الصّورة ويبتعد عن البهرجة البصريّة. أمّا المشاهد اللّيليّة، الإضاءة الباهتة، وضيق الأماكن، فتعكس عالماً خانقاً ومُغلقاً، حيث يعيش اللاجئ على هامش المدينة، هائماً في حدائقها أو مُختبئاً خلف جدرانها.
رحلة النّجاة المُستحيلة
يعتمد الفيلم على بُنية دراميّة كلاسيكيّة تتمثَّل في رحلة بطلَين نحو الخلاص، لكن سرعان ما تتحوَّل إلى رحلة ضد الأمل. حيث لا نجد تصاعداً دراميّاً باتّجاه النجاة، بل على العكس، كلّ خطوة نحو الهروب تُقرّب الشّخصيّات أكثر من الحافة. يتكرَّر الانتظار وتُستنزف الحركة، ما يعكس شعور اللاجئ المُعلَّق بين وطنٍ مفقود ومستقبلٍ مستحيل. وفي هذه الغُربة المُثقلة بالألم، يُقدّم بكري أداءً قويّاً بِدَور اللاجئ المُمزَّق بين ماضٍ ثقيل ومستقبل مغشوش، تُحوّله ملامحه الصّلبة وصمته الطّويل إلى جدار اندفاعي ضد الانكسار.
شاتيلا ليس بطلاً بالمفهوم التّقليدي، بل هو انسان غريزي يُحاول البقاء، وفي سبيل ذلك يتحوّل تدريجيّاً من ضحيّة إلى مُشارك في استغلال الآخرين. ويتفوّق صبّاح، من جهته، في نقل هشاشة شخصيّة رضا، من دون الوقوع في التّمثيل المسرحي والمُبالغة. إذ أنَّ شخصيّته تُمثّل الوجه الآخر للمنفى... شخص منهار وفاقد لأي حلم فعلي. وجوده في الفيلم يُكرّس ثيمة «الخسارة الدّاخليّة»، لا خسارة الوطن فقط، بل خسارة الذَات! الشّخصيّتان تجمعهما علاقة أخوّة مختلَّة، فيها بعضٌ من الحنين، كثيرٌ من الحقد والاعتماد القسري. هذه علاقة تتطوّر تحت الضّغط لتكشف عن مدى هشاشة الرّوابط البشريّة في وضع النّضال القاسي.
اللاجئ ليس رمزًا لقضيّة
لا يُقدِّم الفيلم خطاباً سياسيّاً، بل يعمل على تجسيد ما هو إنساني في قضيّة اللاجئين، فهو يتجاوز كونه فيلماً عن الفلسطينيّين، ليغدو تأمُّلاً سينمائيّاً في معنى الغربة، الهويّة المُعلّقة والكرامة المُهدَّدة. ويُذكّرنا الفيلم بأنَّ اللّجوء ليس حدثاً موقّتاً بل حالة وجوديّة مُستمرّة. إنَّه أحد أبرز أفلام اللّجوء العربي في السّينما الأوروبيّة الحديثة، ومن أهم المُحاولات الدراميّة لإعادة تمثيل الفلسطيني كإنسان، لا فقط كقضية!
تبدأ عروض الفيلم غداً في صالات سينما «Metropolis» - مار مخايل، بيروت.