الياس دمّر

عبر دراما الحزن الموروث وسُخرية الذّاكرة

حفيدان يُواجهان إرث الجدَّة في «A Real Pain»

يبدو فيلم «A Real Pain» للوهلة الأولى، رحلة طريق (Road Movie) تقليديّة في الشّكل، لكنّها سرعان ما تنقلب إلى رحلة داخليّة متوتّرة عبر علاقات أسريّة وشخصيّة. تنطلق القصّة من حدث بسيط (جنازة جدَّة) ليتحوّل إلى تأمُّلٍ عميق في الإرث والهويّة، خصوصاً في ظلّ ما تركته المجازر النّازيّة من ندوب غير مرئيّة!


نُرافق خلال الفيلم ابنَي عم أميركيَّين، ديفيد (Jesse Eisenberg) وبنجي (Kieran Culkin)، اللذين يُسافران إلى بولندا لتكريم ذكرى جدّتهما الرّاحلة. وتُسلِّط القصّة الضوء على التوتّرات بين الشخصيّتين، حيث يظهر ديفيد بصورة الرّجل العائلي والمُنظّم، بينما يُمثّل بنجي الشاب الفوضويّ والمُتمرّد. من خلال رحلتهما، يستكشف الفيلم مواضيع الحزن، الصّدمة الموروثة والكيفيّة التي يتعامل بها الأفراد مع إرث تاريخي ثقيل.



حين يضحك الألم

قدَّم Kieran Culkin أداءً استثنائيّاً في دور بنجي، حيث يُظهر تعقيدات الشّخصيّة التي تجمع بين الفُكاهة والألم الدّاخلي. لقد جسَّد بكل بساطة روح الفيلم، فهو يُمثّل الجرح المكبوت، الصُراخ الذي لا يُسمع! كما أنَّ اعتماد Culkin أسلوب الانهيار غير الدراماتيكي، جعل أداءه أكثر واقعيّةً وألماً؛ ما جعله ينال جائزة «أفضل ممثّل مُساعد» في احتفاليّات «الأوسكار» و «البافتا» و «الغولدن غلوب».


أمّا Eisenberg الذي لعب دور النّقيض أو الرّجل الذي يُواجه الحزن بالصّمت والتّنظيم، فقد برع بتقديم الشّخصيّة التي تخفي هشاشتها خلف جدران المنطق، مُضيفاً حساسيّةً حداثيّة لا تعتمد على التهكُّم.



موسيقى شوبان

إلى كتابة الفيلم وتمثيله، أظهر Eisenberg نضجاً ملحوظاً في تجربته الإخراجيّة الثانية، حيث يوازن بين اللّحظات الكوميديّة والدراميّة بسلاسة. ويستخدم الموسيقى الكلاسيكيّة، خاصةً مقطوعات Chopin، لتعزيز الأجواء العاطفية. واختياره موسيقى شوبان ليس عشوائيّاً، فهو رمز للألم البولندي التّاريخي. كما تُبرز التّصويرات البصريّة للمواقع البولنديّة، التباين بين الماضي والحاضر، ما يُضفي عُمقاً على السّرد. ويميل Eisenberg إلى أسلوب «المُلاحظة السّاكنة» (Observational Style)، تاركاً الكاميرا تتأمَّل من دون فرض المشاعر على المشاهد.


ومن موسيقى البيانو التي تعكس الهشاشة والحنين، خالقةً المُفارقة بين جمال النّغمة وقسوة الذكرى، يُتقن الفيلم أيضاً لغة الصّمت. فجعل المُخرج منها أداةً دراميّة مُثقلة بالألم، فالصّمت خلال زيارة المواقع النازيّة أبلغ من أيّ حوار!



غوص في اللاوعي الجماعي

عالج الفيلم موضوعاً تاريخيّاً مُرهقاً بطريقة استثنائيّة، من دون الوقوع في فخ الابتذال أو استدرار العاطفة، على الرُّغم من رمزيّةٍ قد تبدو مُفرطة، خاصّةً في بعض المشاهد الهادئة التي لا تتقدَّم دراميّاً بشكلٍ واضح.


إلّا أنَّ الفيلم يُقدّم تجربة غنيّة تجمع بين الدراما والكوميديا في سردٍ يعكس تعقيدات العلاقات العائليّة والهويّة والصّدمة التّاريخيّة. كما ركّز الفيلم على جيلٍ جديد غير مُتصالح مع الماضي، والذي لا يجد وسيلة لفهمه سوى بالغضب أو التهكُّم. وحمل في لقطاته الرمزيّة لذكريات الماضي، ما تبعها من عواقب مؤلمة لفقدان الوجهة والانفصال عن الجذور.


تجدون هذه الدّراما التأمّليّة المُميّزة على منصّة +Disney.