لم يكن مستغرباً إطلاقاً أن تواجه جهود إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا، معوقات وتعقيدات متشعّبة، حالت حتى اللحظة دون التمكّن من فرض وقف شامل لإطلاق النار بلا شروط مسبقة لشهر واحد على الأقلّ، بسبب التعنت الروسي. وبدلاً من ذلك، تحاول موسكو شراء الوقت ونصب المكائد بطرح اقتراحات غامضة على غرار إبداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعداده للعمل مع كييف على "مذكرة" تحدّد خريطة طريق نحو اتفاق سلام. أدرك ترامب عمق المعضلة بين موسكو وكييف، الأمر الذي جعله يُقرّ في منتصف آذار الفائت بأن "تصريحاته الانتخابية" التي جزم خلالها بأنه يستطيع حلّ الصراع بين روسيا وأوكرانيا في غضون 24 ساعة، حتى قبل توليه منصبه، كانت ساخرة إلى حدّ ما.
يُراهن بوتين على تحقيق مكاسب ميدانية تعزّز أكثر موقفه التفاوضي. صحيح أن القوات الروسية ما زالت تحتلّ بلدات أوكرانية دورياً، بيد أن تقدّم موسكو الميداني بطيء ومحدود واستنزافيّ. لكن هذا لن يُثني "القيصر" عن الدفع في اتجاه احتلال أراض أوكرانية سبق أن أعلنت بلاده ضمّها إليها. وذهب الروس إلى حدّ مطالبة الأوكرانيين خلال المحادثات المباشرة بينهما في اسطنبول يوم الجمعة الماضي، بالانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي ضمّتها موسكو وما زالت بقبضة القوات الأوكرانية، قبل موافقتهم على وقف النار.
يعتبر بوتين أن فاتورة الحرب الباهظة تبقى أرحم من تقديمه تنازلات كبيرة قد تكلّفه "عرشه" في الكرملين مستقبلاً. لا يستسيغ الروس التخلّي عن أراض يؤمنون في صميم وجدانهم الجماعي بأنها مسلوبة منهم ودفعوا من دماء أبنائهم لاسترداد أجزاء منها. كما لن يقبل "العقل الأمني" في موسكو بأي تهديد يأتي من "الخاصرة الغربية"، خصوصاً بعد توسّع حدود "الناتو" مع "الدب الروسي" بانضمام فنلندا والسويد إلى الحلف. روسيا تكبّدت هزيمة استراتيجية بتفكّك الاتحاد السوفياتي وانفلاش "الناتو" شرقاً نحو حدودها، وتريد الحدّ من خسائرها، مهما كان الثمن. "الحسابات الروسية" التي تقف سدّاً منيعاً ضدّ إنهاء الحرب سريعاً، أقوى من "الاعتبارات الأميركية" الساعية إلى طيّ صفحة "حمّام الدم" في أوكرانيا.
لعنة أوكرانيا تتجسّد بأنها تتواجد في "المدى الحيوي" الآخذ بالتقلّص لروسيا، بينما تقف الولايات المتحدة على الضفة الأخرى من الأطلسي مقابل أوروبا العاجزة عن تأمين الضمانات الأمنية اللازمة لكييف وحدها. للولايات المتحدة مصالح واهتمامات في كافة أنحاء المعمورة، وهدّدت مراراً بإنهاء مساعيها لإحلال السلام بين موسكو وكييف إذا لم يتخذ المتحاربان خطوات ملموسة نحو تسوية الصراع بينهما. والمكالمة الهاتفية الطويلة التي أجراها ترامب مع بوتين مطلع هذا الأسبوع، عبّدت الطريق أمام "مفاوضات فورية" لوقف النار تمهّد لمحادثات ينتج عنها اتفاق سلام، قد تستضيفها حاضرة الفاتيكان. ولهذا السيناريو، إن تحقّق، "رمزية تاريخية"، إذ ستحتضن "عاصمة الكاثوليك" العالمية مصالحة أرثوذكسية - أرثوذكسية برعاية بروتستانتية.
لكييف هواجس وحسابات لا تقلّ خطورة عن تلك الخاصة بموسكو. فليس سهلاً على القيادة الأوكرانية التنازل أمام شعبها المقاتل والمناضل عن سيادتها على مساحات واسعة تضمّ أراضي زراعية ومناطق تحتوي على موارد طبيعية ومعادن نادرة. تكبّدت أوكرانيا خسائر بشرية ومادية جسيمة في معارك الدفاع عن الأرض، ما يجعل الرضوخ للشروط الروسية أمراً شبه مستحيل مع استمرار المقاومة وصمود الجبهات نسبياً أمام الهجمات الروسية المكثفة، خصوصاً في ما يتعلّق بتمسّك روسيا بضمّها المناطق الأوكرانية الأربع، وهي لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون، فضلاً عن رفض موسكو تواجد قوات غربية في أوكرانيا تطالب بها كييف وتراها ضرورية لحفظ سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها في مواجهة "مخالب" روسيا الجارحة.
بعد مكالمته الهاتفية الأخيرة مع ترامب، تحدّث بوتين عن إيجاد تسويات ترضي كافة الأطراف. لكن تبقى عملية إرضاء كلّ المعنيين بالصراع مسألة عسيرة وشاقة. إن نجاح أي تسوية تعالج الأسباب الجذرية للحرب سيُحتم على موسكو وكييف، المعنيّتين الأساسيّتين بحلّ مستدام، تقديم تنازلات متبادلة للتلاقي في منتصف الطريق. يحقّ للأقلية الروسية في أجزاء من مناطق شرق أوكرانيا وجنوبها تقرير مصيرها، من دون تهديد "الأمن القومي" لأوكرانيا، كما يحقّ للغالبية الأوكرانية في البلاد الاتجاه غرباً ونسج تحالفاتها الدولية، من دون تهديد "الأمن القومي" لروسيا. يُمكن اغراء موسكو باعتراف دولي بضمّها شبه جزيرة القرم وإعطاء "وضع خاص" لمناطق الأقلية الروسية في أوكرانيا، مقابل احتفاظ كييف بجيش قوي قادر على حماية استقلال أوكرانيا ومصالحها بضمانات أمنية غربية صلبة.
الحلّ بحاجة إلى ترتيبات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية متعدّدة المستويات، تبعد شبح تفجّر الحرب مرّة أخرى عند أي تضارب حاد في المصالح الجيوسياسية. ورغم الجهود الأميركية الحثيثة للوصول إلى نهاية للجحيم الأوكراني، يؤكد الأوروبّيون الذين لديهم مخاوفهم ومصالحهم الخاصة، أن بوتين يُماطل ولا يفهم إلّا لغة القوّة ويدعون إدارة ترامب إلى فرض عقوبات قاسية على موسكو تعيد خلط "الأوراق التفاوضية" بما يصبّ في مصلحة الوصول إلى "سلام عادل". ومع مراوغة الرئيس الروسي ورفضه الموافقة على وقف غير مشروط لإطلاق النار، لم ينتظر الأوروبّيون حلفاءهم الأميركيين للتحرّك وتكثيف الضغوط على الكرملين، فأقرّ الاتحاد الأوروبي أخيراً الحزمة الـ 17 من العقوبات على موسكو، كما فرضت بريطانيا عقوبات مماثلة، تستهدف خصوصاً "أسطول الشبح". وتوعّدت بروكسل ولندن بفرض المزيد منها.
واشنطن تبقي "عصا" العقوبات على الطاولة بانتظار فشل إغراءات "جزرة" المنافع المشتركة. لكن روسيا لم تكترث بكلّ شراكاتها التجارية والاقتصادية العملاقة مع أوروبا وأميركا يوم ضمّت القرم ويوم قرّرت غزو أوكرانيا. هنا تكمن المشكلة مع موسكو ومن هنا قد ينبعث "الحلّ النهائي" بدفع غربي هائل. وفق المعطيات الحالية وموازين القوى القائمة، فإن الاتفاق الناجح هو ذاك الذي "يُعطي ويأخذ" من كلّ طرف، من دون أن يُفرز معادلة "غالب ومغلوب"، ويحظى بـ "موافقة باردة" من موسكو وكييف على السواء، إلّا أنهما ستدركان، رغم امتعاضهما المحتمل، منافعه مع قطف "ثمار السلام" أو حين لا ينفع الندم.