على الرّغم من الظروف الاقتصاديّة العصيبة والأوضاع غير المستقرة التي عصفت بلبنان، لا تزال الحركة المسرحية فيه تنبض بالحياة، محافِظةً على إرث فني وثقافي عريق عُرف به بلدنا. فقد شهدت بيروت وعدد من المدن اللبنانية عروضاً مسرحية متنوّعة خلال الأشهر الأخيرة، تراوحت بين المسرح الكلاسيكي، والكوميدي، والتجريبي، ما يعكس إصرار الفنانين اللبنانيّين على الاستمرار في الإبداع والتعبير.
تتميّز العروض المسرحيّة التي تستقبلها الخشبة اللبنانيّة، بمواضيعها الجريئة والمرتبطة بالواقع اللبناني بمعظمها، حيث نجد أعمالاً تتناول قضايا الهوية، والفساد، والهجرة، والحرية، ما يجعل المسرح مساحة حرة للتفكير والنقد. كما ساهمت مبادرات شبابية ومؤسسات ثقافية مستقلة في دعم هذه الأعمال رغم ضعف التمويل وغياب الدعم الرسمي.
مشاهد متنوعة
تتوزّع الحركة المسرحية على بيروت ومناطق أخرى، حيث تنشط مسارح مثل «المونو»، «مترو المدينة»، «كازينو لبنان»، «مسرح المدينة»، «دوّار الشمس»، «الإليزيه»، و «زقاق»، التي تحتضن طيفاً واسعاً من العروض والتجارب الفنّية.
وقد عاد اللبناني في السنوات الماضية إلى المسرح بزخم ملحوظ، مدفوعاً بتحوّلات اجتماعية وسياسية وصحّية، شكّلت منعطفاً في الوعي الجماعي. من الثورة، إلى انفجار مرفأ بيروت، مروراً بجائحة كورونا، وجد اللبنانيون في المسرح مساحة للتعبير عن الذات، ووسيلة للتواصل الحقيقي بعيداً من الضوضاء الرقمية.
خبّاز: تفاؤل بالمستقبل
يقول المؤلّف والممثل والمخرج جورج خبّاز لـ «نداء الوطن» إنّ هذا الشغف المتجدّد تجاه المسرح لا يقتصر على الجمهور فقط، بل يشمل صنّاع المسرح أنفسهم، الذين وجدوا في هذه المرحلة فرصة لاستعادة دورهم ومكانتهم. وبدورها، أسهمت المسارح المتاحة في احتضان المواهب الشابة، ما أضفى طاقةً جديدة على المشهد الفني اللبناني. ويؤكد خبّاز أنّ المسرح اللبناني يشهد حالياً، حالة من النشاط اللافت، مع إنتاجات نوعيّة تتفاوت بين أعمال ناضجة تستحق التقدير، وأخرى تجريبية تبشّر بمستقبل واعد.
تحدٍ رئيسي
لكن على الرّغم من هذا الزّخم، يبقى العائق الأبرز أمام تطوّر الحركة المسرحية في لبنان، هو النقص في عدد صالات العرض. فقلّة المسارح تحدُّ من إمكانية تقديم العروض واستمراريّتها، كما تُقلّص فرص المشاركة والإبداع لدى الجيل الجديد من المسرحيّين. يحمّل خبّاز هنا وزارة الثقافة مسؤولية العمل على تطوير البنية التحتية الثقافية، ويدعو إلى إطلاق مبادرات حقيقية تعزّز حضور المسرح وتمنح الفنانين المساحة والدعم اللازمَين للإبداع.
تفاعل مباشر
لا شكّ أنّ هناك جوّاً من التفاؤل يسود بين المسرحيّين والجمهور على حد سواء. فالمسرح، كما يشير العديد من المتابعين، لا يمكن أن يُستبدل لا بالسينما، ولا بالتلفزيون، ولا حتى بمنصّات التواصل الاجتماعي. إنه الفضاء الوحيد الذي يتيح تفاعلاً مباشراً وحيويّاً بين الناس.
خبّاز يختم كلامه معنا بالتشديد على أنّ السنوات الثلاث الأخيرة، شهدت أعمالاً مسرحيّة متنوّعة بين العبثي، والكوميدي، والموسيقي، في مؤشر إلى حيوية هذا القطاع واستعداده للعب دور أكبر في الحياة الثقافية اللبنانية.
بولس: مبادرات داعمة
مديرة مسرح «المونو» الممثلة جوزيان بولس ترى من جهتها، أنّ على الرّغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها لبنان، لا يزال المسرح ينبض بالحياة. فالفنانون اللبنانيون يواصلون العمل بإصرار وشغف، مدفوعين بروح الإبداع، ومدعومين أحياناً بمبادرات ثقافية ومِنَح من منظّمات خارجية، ما يساعد على إبقاء خشبة المسرح مضاءة في وجه العتمة.
تضيف بولس لـ «نداء الوطن» إنّ الساحة المسرحيّة اللبنانية تشهد انتشاراً ملحوظاً لأعمال الكوميديا والمواضيع الاجتماعيّة، والتي تلقى رواجاً لدى الجمهور التوّاق للضحك والتنفيس عن الضغوط اليومية. ورغم هيمنة هذا النوع، لا تغيب تماماً العروض ذات الطابع السياسي أو الدرامي، وإن بوتيرة أقل.
وإذا كان التمويل عنصراً أساسيّاً لإبقاء المسارح في لبنان مفتوحة لاستقبال العروض المسرحيّة أو إنتاجها، فإنّ الاعتماد بشكل أساسي في ذلك هو على الفنانين أنفسهم الذين يؤمّنون كلفة إنتاج أعمالهم، على ما تقول بولس، «إلى جانب تبرّعات داعمة من مؤسّسات ثقافيّة محلّية ودوليّة، وشراكات مع بعض السفارات. أما الدعم الرسمي من الدولة، فغالباً ما يكون نادراً وغير منتظم».
الجمهور حاضر
من العناصر الأساسيّة لاستمرار المسرح، إقبال الجمهور. تقول بولس في حديثها معنا إنّ «المسرح لا يزال يحظى بجمهور لبناني وفيّ، خاصةً في مسرح «المونو»، مع تباين في الفئات العمرية تبعاً لنوعيّة العرض. ويُظهر محبّو الفن والثقافة اهتماماً دائماً بالأعمال المسرحية، ما يعزّز استمرارية هذا الفن رغم الصعوبات».
ونسأل بولس عن الدعم المادي والمعنوي للمسرحيين، فتجيب: «الوضع لا يزال هشّاً. معظمهم يعملون بلا ضمانات أو دعم ثابت، ويعتمدون على عزيمتهم للاستمرار. ورغم وجود بعض المبادرات، إلا أنها تبقى محدودة وغير كافية».
الثورة الرقمية والتربية المسرحيّة
لكن ماذا عن هيمنة المنصّات الرقمية، وهل تشكّل خطراً على استمراريّة المسرح؟ تجيب بولس: «لا يبدو أنّ المسرح مهدّد بالاندثار. على العكس، يُتوقع أن يتأقلم مع الواقع الجديد عبر دمج التكنولوجيا والتوسّع نحو الجمهور الإلكتروني، مع الحفاظ على جوهره التفاعلي والحيّ».
في جانب آخر، تعليم المسرح قائم ضمن «الجامعة اللبنانيّة» وعدد من الجامعات والمعاهد الخاصة، في حين لا تزال برامجه شبه غائبة عن المدارس. في هذا الإطار، ترى بولس أن إدماج المسرح في المناهج التربويّة يعزّز مهارات الأطفال في التعبير والثقة بالنفس. ولجذب الشباب، تقترح تقديم عروض بأسعار مناسبة لهم، ومعالجة مواضيع تلامس اهتماماتهم، إضافةً إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج، وفتح المجال أمامهم للمشاركة في ورش العمل أو العروض المسرحية.
ختاماً، يبقى المسرح في لبنان، أداة مقاومة فنّية، وصوتاً يعكس نبض الشارع، ويؤكّد أنّ الإبداع في موطننا لا يعرف حدوداً، وفنّانينا لا يستسلمون، حتى في أحلك الظروف.