بشارة جرجس

بعد طَي صفحة السلاح الفلسطيني... أصبح سلاح "الحزب" على الطاولة

كابوس السلاح الفلسطيني الذي امتد لستة وخمسين عاماً بدأ اليوم يتبدّد، وللمرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، نشعر بأننا نسير على مسار سيادي حقيقي، من دون اجتهادات رمادية ولا فتاوى محاور الممانعة.



تشكّل اللحظة الراهنة في لبنان منعطفاً تاريخياً استراتيجياً، إذ تستعد الدولة، بعد عقود من التردّد والجمود، لتنفيذ قرار جمع السلاح الفلسطيني من المخيمات، في خطوة تعيد الأمل بقيام دولة ذات سيادة فعلية. هذه المبادرة، التي من المقرّر أن تبدأ منتصف حزيران المقبل، ليست مجرد تفصيل أمني، بل هي تصحيح لمسار تاريخي معقّد بدأ قبل أكثر من نصف قرن.



تعود جذور قضية السلاح الفلسطيني في لبنان إلى اتفاق القاهرة عام 1969، حين سمح لبنان لمنظمة التحرير الفلسطينية بحرية العمل العسكري من أراضيه ضد إسرائيل، في خطوة أثارت الجدل والانقسام الداخلي، وسرعان ما مهّدت الطريق لانفجار الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. وتحوّلت المخيمات الفلسطينية مع الوقت إلى مناطق نفوذ خارج سيطرة الدولة، لتندلع بينها وبين القوى اللبنانية حروب دموية متتالية، حتى بين أطراف المحور الواحد. من أبرزها “حرب المخيمات” بين حركة “أمل” والفصائل الفلسطينية (1985-1988)، والتي أودت بحياة الآلاف.



ورغم أن اتفاق الطائف (1989) نصّ بوضوح على إنهاء ظاهرة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم سلاحها للدولة، إلا أن التطبيق بقي معلّقاً بفعل الوصاية السورية التي فرضت خطوطاً حمراء على السلاح الفلسطيني وعلى “حزب الله” بطبيعة الحال، مستخدمة إياهما، مع إيران، كورقة نفوذ إقليمية. واستمر هذا الواقع حتى الانسحاب السوري عام 2005.



مع انسحاب الجيش السوري وتراجع القبضة الأمنية للنظام، تحوّل “حزب الله” إلى حارس النفوذ الإقليمي البديل، محافظاً على واقع الأمر الواقع في المخيمات، مانعاً أي خطوة باتجاه نزع السلاح غير الشرعي، مستنداً إلى دعم وغطاء إيراني مباشر. إلا أن التطورات الإقليمية الأخيرة، وتحديداً تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة بفعل الضغوط الدولية المتصاعدة، والمواجهات العسكرية الأخيرة بين الحزب وإسرائيل، والتي انتهت بهزيمته الميدانية، أدّت إلى إعادة تقييم جدّي لمسألة السلاح.



زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة إلى بيروت (أيار 2025) واجتماعه مع الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، مهّدت لقرار حاسم يبدأ بجمع السلاح منتصف حزيران - (الشهر القادم)، وفقاً لجدول واضح. وستكون البداية في مخيمات بيروت، لتنتقل بعدها إلى البقاع والشمال، وصولاً إلى الجنوب، حيث تنتظر المهمة الأصعب في مخيم عين الحلوة، الذي يحتضن خليطاً من فصائل متناحرة مثل “فتح”، و”حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، بالإضافة إلى جماعات متطرفة تشكّل تهديداً أمنياً مستمراً.



هذه العملية لن تكون سهلة، بل هي اختبار حقيقي لمؤسسات الدولة اللبنانية، خصوصاً الجيش والأمن العام. لكنها أيضاً فرصة تاريخية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة اللبنانية والوجود الفلسطيني على أراضيها، والتي عانت لسنوات طويلة من التوترات الأمنية الخطيرة، أبرزها حرب مخيم نهر البارد عام 2007.



الأهم من ذلك، أن هذا القرار يحمل أبعاداً استراتيجية تتجاوز المخيمات الفلسطينية، إذ يشكّل ضغطاً مباشراً على “حزب الله” لبدء مسار فعلي لتسليم سلاحه، استجابة للقرارات الدولية وعلى رأسها القرارين 1559 و1701. إن نجاح لبنان في نزع السلاح الفلسطيني سيمهّد حتماً لمسار مشابه مع الحزب، خصوصاً في ظلّ الإشراف الدولي المتزايد والضغوط الأميركية والإقليمية الواضحة، التي تربط الدعم الاقتصادي للبنان بإنهاء حالة السلاح خارج الدولة.



يقف لبنان اليوم أمام فرصة نادرة لاستعادة سيادته الكاملة، في ظلّ متغيّرات إقليمية ودولية قد لا تتكرّر قريباً. إن نجاح هذه الخطوة سيفتح الباب واسعاً أمام بناء مؤسسات الدولة، بعيداً عن إرث الحروب الأهلية، ويدشّن مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار، لطالما حلم اللبنانيون بها، وناضلوا وحاربوا من أجلها.