نجح العهد الجديد برئاسة رئيس الجمهورية جوزاف عون في تجاوز أولى استحقاقاته السياسية الكبرى، عبر تمرير الانتخابات البلدية والاختيارية، رغم التحديات الداخلية والرهانات التي توقعت تأجيلها، لتكون أولى محطات التعثّر.
وقد شكلت هذه الانتخابات اختباراً مبكّراً لموازين القوى السياسية، ولقُدرة الأحزاب التقليدية وقوى التغيير على الحشد والاستقطاب الشعبي، تمهيداً لمعركة الانتخابات النيابية المقبلة.
أظهرت النتائج أن "الثنائي الشيعي"، رغم الحرب المدمّرة التي تعصف بالمنطقة، لا يزال يحتفظ بقدرة انتخابية وازنة مكّنته من تثبيت حضوره بقوة داخل بيئته الطائفية، مع تأثير متزايد في مناطق مختلطة كجبل لبنان، البقاع، والجنوب. كما نجح في حماية "المناصفة" في العاصمة، مستفيداً من الفراغ القيادي السنّي، وغياب المرجعية السياسية الموحّدة.
في المقابل، رسّخت "القوات اللبنانية" حضورها كرقم صعب في الشارع المسيحي، مستفيدة من تحالفات متنوّعة، فيما حافظ النائب تيمور جنبلاط على إرث الحزب "التقدمي الاشتراكي". أما المشهد السنّي، فكان الأكثر إرباكاً وتبعثراً، في ظل استمرار تداعيات غياب الرئيس سعد الحريري، واعتكاف "تيار المستقبل"، وغياب البديل للحالة الزرقاء.
دخلت الطائفة السنّية الانتخابات في حالة من التشتّت وغياب المرجعية، فانعكس ذلك مباشرة على النتائج. ففي بيروت، كسرت الأصوات السنّية الاعتراضية "المناصفة" وهي المعادلة التي أرساها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وظهرت بوضوح ملامح احتجاج شعبي على تحالفات تعتبرها شرائح واسعة من البيارتة غير ممثّلة، لا سيما مع محاولات فرض قوى كـ "الأحباش" كواجهات للقرار السنّي في العاصمة.
هذا الواقع أنتج تشتتاً انتخابياً، واستكمل بفشل لدى الأطراف المعارضة للائحة "السلطة" في استقطاب الكتلة الرافضة للائتلاف، ما أدى إلى خسارة المعركة في بيروت، وخسارة ورقة الحسم و"المناصفة".
في طرابلس، لم يكن المشهد مختلفاً كثيراً، إذ فاقمت التحالفات المفاجئة بين أركان السلطة والانقسامات داخل قوى التغيير من تشتّت الصوت السنّي، ما أفرز مجلساً بلدياً يفتقر إلى التوازن والتجانس، ويصعب عليه أداء دور تنموي فاعل.
في المقابل، برزت صيدا بصورة أكثر تماسكاً، حيث بدا واضحاً أن مزاج المدينة لا يزال قريباً من خيارات "تيار المستقبل"، رغم غياب لوائح رسمية باسمه. وقد أثبتت النائبة السابقة بهية الحريري مجدداً قدرتها على إدارة اللعبة السياسية في عاصمة الجنوب.
هذه الصورة المتباينة تطرح تساؤلات جديّة داخل البيت السنّي: هل يمكن تكرار هذا التشتّت في الاستحقاق النيابي المقبل؟ وهل يؤدي غياب القيادة إلى مزيد من التآكل السياسي للطائفة؟
فالطموح السنّي لا يتوقّف عند الانتخابات فقط، بل يتّصل مباشرة بمرحلة مفصلية تعيشها البلاد والمنطقة، حيث يسعى السنّة إلى استعادة حضورهم الفاعل في تحديد مسار الدولة، والمشاركة في رسم الخيارات الوطنية الكبرى التي تضمن بقاء لبنان ودوره في "شرق أوسط جديد" يُعاد تشكيله بصمت.
بحسب المؤشرات المتداولة، هناك احتمالات كبيرة لعودة "تيار المستقبل" إلى المشهد السياسي من خلال لوائح رسمية في الانتخابات النيابية، في محاولة لاستعادة مركزية القرار السنّي، وتشكيل "بلوك" نيابي يعيد التوازن إلى التركيبة الطائفية والسياسية في البلاد.
بالمحصلة، يبدو الواقع السياسي السنّي اليوم يقف عند مفترق حاسم، والانتخابات النيابية المقبلة قد تكون المعركة الأخيرة لإعادة التوازن أو خسارة الدور. ولذلك، لا مبالغة في القول إن شعار المرحلة للطائفة السنية حينها قد يكون: "نكون... أو لا نكون".