لا تزال الجهود الأميركية لإنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا في مربّعها الأول، إذ رغم المحادثات المباشرة التي جمعت كييف وموسكو في اسطنبول الشهر الماضي للمرّة الأولى منذ عام 2022، والتي أسفرت عن إنجاز أكبر صفقة تبادل أسرى منذ بدء الحرب، لم يستطع الطرفان حتى الآن التوصل إلى وقف للنار يمهد لمفاوضات جدّية تفضي إلى سلام دائم وعادل، بل ذكرت موسكو بعد نهاية المفاوضات أن كلّاً من الطرفين سيُعدّ مذكرة مكتوبة تشمل مطالبه وشروطه لوقف النار. وبينما اقترحت روسيا الأسبوع الماضي إجراء جولة ثانية من المحادثات في اسطنبول اليوم، وافقت أوكرانيا، التي أرسلت مذكرتها إلى الروس، على حضور المحادثات على مضض أمس، بعدما كانت قد اشترطت أن تطلعها موسكو على مذكرتها قبل عقد المحادثات، الأمر الذي لم يحصل حتى كتابة هذه السطور، بالإضافة إلى ضرورة وجود جدول أعمال واضح لأي مفاوضات مقبلة.
ينطلق الموقف الأوكراني من عدم ثقة كييف وحلفائها الغربيين بنوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لم يقدم على أي خطوة تشير إلى اقتناعه بضرورة وقف الحرب، فقد امتنع عن حضور الجولة الأولى من المحادثات وبعث بدلاً منه وفداً منخفض المستوى سيمثل روسيا اليوم أيضاً، رغم وجود الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تركيا حينها وإبدائه استعداده مراراً لخوض مفاوضات مباشرة مع بوتين إثر إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على ذلك. كما شنت روسيا أكبر موجة قصف جوي منذ بدء الحرب، مستهدفة مدناً كبرى، من ضمنها كييف، بعد أيام من نهاية محادثات اسطنبول وخلال تنفيذ تبادل الأسرى.
بالإضافة إلى ذلك، كرّرت روسيا بعد اقتراحها إجراء محادثات جديدة اليوم، شروطها التعجيزية لوقف النار وبدء مفاوضات السلام، مشدّدة على ضرورة وقف الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا وامتناع الأخيرة عن حشد مزيد من القوات كشرط مسبق لوقف النار، ما يعني عملياً استسلام كييف وتعبيد الطريق أمام عدوان روسي جديد في المستقبل، في وقت تصرّ فيه أوكرانيا على وقف للنار غير مشروط وتبادل الأسرى وعودة الأطفال الأوكرانيين المخطوفين أوّلاً قبل بدء محادثات السلام. في الوقت عينه، تمتنع موسكو عن ابداء استعدادها لتقديم أي تنازل جدي في أي اتفاق سلام محتمل، إذ تصرّ على الاعتراف بضمّها أربع مقاطعات أوكرانية لا تسيطر عليها بشكل كامل، كما ترفض أي شكل من أشكال الضمانات الأمنية التي قد يمنحها الغرب لكييف، كوجود قوّة حفظ سلام أوروبّية تضمن الالتزام بوقف النار.
يرى بوتين أنه يمتلك زمام المبادرة على المستوى الميداني في ظلّ التقدّم البطيء والمكلف، لكن اليومي، الذي يُحققه جيش بلاده على أرض المعركة، خصوصاً في شرق أوكرانيا وفي مقاطعة سومي في شمال شرق البلاد، فضلاً عن التطوّر المهمّ الذي شهدته القدرة الصناعية العسكرية الروسية أخيراً، الأمر الذي جرت ترجمته ميدانياً عندما أطلقت روسيا أكثر من 1000 مسيّرة وصاروخ خلال ثلاثة أيام على أوكرانيا الشهر الماضي. واستطاعت موسكو أن تعدّل تكتيكاتها انطلاقاً من التجارب التي خاضها الجيش الروسي منذ بدء الحرب، فقد وردت تقارير تفيد بأنه خلال الهجوم الضخم الأخير استخدمت صواريخ "اسكندر" الباليستية تقنيات خداع جديدة للتغلّب على صواريخ "باتريوت" الأميركية الاعتراضية. كما اعتمدت المسيّرات من طراز "شاهد" أنماط هجوم جديدة، بما في ذلك استخدام مسارات هجوم على ارتفاعات أعلى، والمزيد من وسائل الخداع، حسب "معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية".
إنما لا تزال أوكرانيا قادرة على منع الروس من التقدم بشكل كبير، إذ تمكّنت من التعويض عن التفاوت المهمّ بين حجم الجيشين الروسي والأوكراني عبر اتقان صناعة المسيّرات واستخدامها على الجبهات، كما طوّرت أيضاً قدراتها على ضرب المواقع العسكرية وخطوط الإمداد في العمق الروسي، وقد اتفقت أخيراً مع ألمانيا على التعاون في تطوير إنتاج صواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيّرة. بالإضافة إلى ذلك، تعززت كثيراً قدرات الاستخبارات الأوكرانية خلال سنوات الحرب، بحيث استطاعت تنفيذ عدد من عمليات الاغتيال واستهداف البنى التحتية داخل روسيا، مباشرة أو بواسطة عملاء.
مقابل التعنت الروسي، تعاملت إدارة ترامب حتى الآن بليونة كبيرة مع الكرملين، الذي لا يلمس أي ضغط أميركي يدفعه إلى النزول عن الشجرة، فقد امتنع ترامب عن فرض عقوبات جديدة على روسيا حتى اللحظة، كما لم تتعهد إدارته بأنها ستستمر بالدعم العسكري لأوكرانيا. وأكد المسؤولون الأميركيون مراراً، آخرهم مبعوث البيت الأبيض إلى أوكرانيا كيث كيلوغ، أن مطلب روسيا ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو" قابل للتحقيق، الأمر الذي يعتبر في حال تضمينه في أي اتفاق سلام محتمل، تعديلاً لسياسة "الباب المفتوح" التأسيسية للحلف وللسياسة الأميركية حيال أوكرانيا المتبعة منذ عام 2008. وعلى الرغم من انتقاد ترامب بوتين مرّتين الأسبوع الماضي، إلّا أنه لا يزال متردّداً في ممارسة ضغوط حقيقية على روسيا، معرباً عن تخوّفه من أن يؤدي ذلك إلى إحباط فرص التوصل إلى السلام المنشود.
ولكن، تؤكد كييف والأوروبّيون أن غياب الضغط الأميركي على بوتين يشجع الأخير على استكمال حملته الممنهجة لتدمير أوكرانيا واحتلال أكبر قدر ممكن من أراضيها، ما يعزز احتمال فشل مفاوضات السلام بدلاً من احتمال نجاحها، خلافاً لما يراه ترامب. ويبدو أن الكونغرس الأميركي بدأ يقتنع أيضاً بأن المراوغة الروسية لن تنتهي قبل تكشير "العم سام" عن أنيابه، بحيث كشف السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي زار أوكرانيا الأسبوع الماضي برفقة السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنتال، أنه من المقرّر أن يمضي مجلس الشيوخ هذا الأسبوع في مشروع قانون لفرض "عقوبات كاسحة" على روسيا والدول التي تشتري النفط والسلع الروسية، متوقعاً أن تكون المحادثات اليوم مجرّد "مسرحية روسية".
ولكي يُصبح مشروع القانون نافذاً، يجب أن يوافق عليه كلّ من مجلسَي الشيوخ والنواب، وترامب، الذي يرى مراقبون أن ليونته مع روسيا تعود إلى رغبته في التوصل سريعاً إلى اتفاق سلام بسبب الضرورة الاستراتيجية التي تفرض على أميركا عدم تخصيص موارد كثيرة لأوروبا من أجل التركيز على غريمها الاستراتيجي الأوّل، الصين، ومنعها من الهيمنة على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فضلاً عن نيته في فك الارتباط بين بكين وموسكو الذي ازداد رساخة بعد بداية الغزو الروسي لأوكرانيا. ولكن، تدفع تصرّفات موسكو ترامب إلى مراجعة حساباته، ومن المرجّح أن يؤدي استمرار المراوغة الروسية إلى جعله يعيد اعتماد السياسة المتشدّدة حيال الكرملين التي كان قد مارسها خلال ولايته الأولى، وذلك عبر فرض عقوبات موجعة على موسكو والاستمرار في تسليح أوكرانيا والضغط على دول "الناتو" لزيادة إنفاقها الدفاعي.