بشارة جرجس

سياسة العصا الناعمة: تَحَوّل تدريجي للبنان تحت الضغط

يقف لبنان، عند مطلع شهر حزيران، كما في مطلع كل شهر وكل يوم، أمام تقاطعات محلية وإقليمية بالغة الحساسية، قد تُثبّت معادلات في حال اتُّخذت خطوات جدّية لمعالجة الملفات الأساسية، وسط مناخ دولي ضاغط وسيناريوهات إقليمية متسارعة.


ويتمثّل الحدث الأبرز في الأفق اللبناني في الزيارة المرتقبة، بعد عيد الأضحى، للموفد الأميركي، أيّاً يكن اسمه، والذي قد يرافق مورغان أورتاغوس في الزيارة إلى لبنان، بعد ورود معلومات عن إعادة تكليفها بمهمة أخرى. ومع ذلك، فإن مضمون خارطة الطريق سيبقى ساري المفعول في لبنان، بغضّ النظر عن هوية الموفد الجديد، سواء كان توماس باراك (الموفد الأميركي إلى سوريا) أو غيره، إذ سيحمل في جعبته سلّة من المطالب والتصورات، بعضها معروف وقديم، وبعضها الآخر مستجدّ ويتماشى مع اللحظة السياسية الدقيقة التي يمر بها البلد، ولا سيما ما يتصل بملف اقتصاد “الكاش” وأدواته، من "القرض الحسن" إلى المنصات غير الشرعية الأخرى.


تأتي الزيارة في لحظة دقيقة تتقاطع فيها استحقاقات حسّاسة: من جهة، اقتراب تنفيذ الجدول الزمني المفترض لجمع السلاح داخل المخيمات الفلسطينية؛ ومن جهة أخرى، تمسّك "حزب الله" بسلاحه كأداة سياسية وعسكرية تتجاوز منطق الدولة.


لكن المعطيات تشير بوضوح إلى أن الحزب بات يدرك أن قرار نزع السلاح قد اتُّخذ على المستويين الإقليمي والدولي، وأن هامش المناورة ضاق كثيراً، والحكومة اللبنانية تحظى بفرصة حقيقية، لا لإدارة الأزمة فحسب، بل لتفكيك عناصرها البنيوية، وفي مقدّمها معضلة السلاح الخارج عن الشرعية. وهذا هو جوهر خارطة الطريق التي رسمتها واشنطن، والتي تفهمها جيداً عواصم الخليج، في إطار تقاطع مصالح جديد يهدف إلى إعادة احتواء الساحة اللبنانية ضمن المشروع العربي – الدولي للاستقرار.


وفيما يراوح لبنان مكانه على حافة اختبار الدولة في مواجهة السلاح، تتسارع التطورات الإقليمية في الجوار السوري. فقد استقبلت دمشق وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان على رأس وفد اقتصادي رفيع، حيث أُعلن عن دعم مالي سعودي – قطري مشترك للعاملين في القطاع العام السوري، إلى جانب التحضير لزيارات وفود استثمارية سعودية لمناقشة مشاريع في مجالات الطاقة والزراعة والبنية التحتية. هذا التحوّل الاستثماري – السياسي يعكس تقدماً نوعياً في مقاربة الرياض للعلاقة مع دمشق، وقد يُترجم بدينامية سياسية لاحقة تشمل ملفات أوسع، من بينها إعادة ترتيب المشهد الأمني في لبنان من زاوية عربية. فكلّما استقرّت سوريا، زاد الضغط على لبنان ليحذو حذوها.


أما في غزة، فقد رفضت "حماس" بشكل غير مباشر المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار، معتبرةً أن أي اتفاق لا يفضي إلى انسحاب إسرائيلي شامل ليس مقبولاً. وقد دفع هذا الموقف الموفد الأميركي ستيف ويتكوف إلى الرد بنبرة حادة، واصفاً الموقف بأنه “غير مقبول ويعيد الأمور إلى المربّع الأول”. هذه العقدة السياسية – العسكرية في غزة لا تنفصل عن مسار الضغط الدولي المتصاعد باتجاه لبنان، باعتبار أن أي تطور إيجابي أو سلبي على الجبهة الغزّاوية سيدفع القوى الدولية إلى تسريع خطوات ضبط الجبهة اللبنانية وتفكيك حالة التوتر التي يستفيد منها حزب الله.


وعلى خطٍّ موازٍ، تدخل إيران مجدداً دائرة التصعيد النووي بعد تسلّمها، عبر الوساطة العُمانية، مسوّدة مقترح أميركي لإحياء الاتفاق النووي. غير أن تقريراً سرياً للوكالة الدولية للطاقة الذرية كشف أن طهران أجرت أنشطة نووية غير مصرّح بها في ثلاثة مواقع لا تزال قيد التحقيق، ما دفع تل أبيب إلى اتهامها مجدداً بالسعي إلى إنتاج سلاح نووي، داعيةً المجتمع الدولي إلى التحرّك.


إذاً، بين ضغوط الخارج وعجز الداخل، يقف لبنان على تقاطع استراتيجي: إمّا أن يتحوّل إلى رافعة استقرار ضمن مشروع إعادة ترتيب المنطقة، أو أن يبقى رهينة ازدواجية الشرعية وثنائية السلاح. فالمسألة لم تعد تتعلّق بالنوايا، بل بالقرارات التنفيذية التي لم تعد تُصاغ في بيروت فقط، بل في العواصم المؤثّرة، من الرياض إلى واشنطن. وكما يُعاد تطويع الملفين الفلسطيني والسوري ضمن أجندات التسوية، فإن التحدّي الحقيقي للبنان اليوم يكمن في قدرته على الانتقال من بند تفاوضي في دفتر الإقليم إلى شريك فاعل في صياغة معادلة جديدة للأمن والسيادة والاستثمار.


القراءة الدقيقة للمرحلة تقود إلى استنتاج مختلف عن التصوّرات السائدة: الضغط المتصاعد على لبنان لا يعني بالضرورة انفجاراً وشيكاً، بل يشكّل مدخلاً فعلياً لإعادة رسم التموضعات الداخلية والإقليمية. فالخارطة الحالية لا تتجه نحو مواجهة شاملة، بل نحو إعادة ضبط توازنات القوى تحت سقف التسويات. وهذا ما تعكسه المقاربة الأميركية – الخليجية: تصعيد محسوب لا يهدف إلى إسقاط لبنان، بل إلى فرض تحوّل تدريجي في سلوكه السياسي والأمني، انطلاقاً من تفكيك بنية الاقتصاد الموازي، وصولاً إلى معالجة السلاح غير الشرعي.


وفي هذا الإطار، لا تبدو المواجهة مع حزب الله ذات طابع عسكري، بل سياسية – اقتصادية طويلة النفس، تُستثمر فيها أدوات الضغط: من العقوبات، إلى العزلة، إلى تجفيف مصادر التمويل الشرعية وغير الشرعية، بالتوازي مع خطوات جدّية من قبل الحكومة لإنهاء “ظاهرة” حزب الله العسكرية التي باتت في خواتيمها.