الياس دمّر

بين الأزرق والأبيض والأحمر

لماذا نحتاج سينما كريستوف كيشلوفسكي اليوم؟

من بولندا إلى بيروت، نسترجع سينما التأمُّل والاحتمال والصّدف، مع استعادة لأفلام المُخرج المبدع Krzysztof Kieślowski بتنظيمٍ من "سفارة جمهورية بولندا في بيروت" و"جمعيّة متروبوليس". فقد انطلقت أمس هذه الاستعادة المُميّزة والمُسمّاة "ألوان الحياة"، مع عرض فيلم "Trois couleurs: Bleu"، وتستمرّ العروض حتى 15 حزيران الجاري، مع 6 أفلام أساسيّة من عالم كيشلوفسكي، يهمسُ من خلالها بما تعجز الكلمات عن قوله.



قبل الغوص في سينما كريستوف كيشلوفسكي، أذكر عندما سألت صحيفة "Libération" الفرنسيّة العديد من صانعي الأفلام عن سبب اختيارهم لمِهنتهم، فأجاب حينها كيشلوفسكي بتواضعه الآسر: "لأنني لا أعرف كيف أفعل أي شيء آخر". هو الذي يُعد حقيقةً من أعظم فلاسفة الصّورة، بمختلف أشكالها، من أفلام قصيرة وطويلة، روائيّة ووثائقيّة، سينمائيّة وتلفزيونيّة!


هندسة الصّدفة 


التيمة المحوريّة عند كيشلوفسكي هي الصُّدفة والتّقاطع، أو ما أسماها خيوطاً خفيّة تحكم مصائر النّاس. ولا يتوقّف هنا، فكل شخصيّة عنده تلعب دوراً مزدوجاًَ، هي أحياناً ضحية وأحياناً مبدعة، في إعادة تشكيل حياة من حولها.


مجموعته، من "الوثائقي" إلى "الديكالوغ" إلى "الثّلاثية"، هي سرد بصريّ لبحث حياته عن القيمة الإنسانية في أخلاق اللحظة، عبر خياراتٍ تبدو بسيطة لكنها مصيريّة. كما أنَّ الصّدفة شكَّلت حياته، حيث في أحد الأيام، وبعد تصويره في محطّة قطار، صادرت الشّرطة لقطات فيلمه. واكتشف لاحقاً أنّ فتاة قَتلت والدتها وأخفت أشلاء الجثّة في إحدى خزائن المحطّة. ليُدرك أنّ لقطات فيلمه قد تُحوّله إلى مُخبر شرطة، فتوقَّف حينها عن إخراج الأفلام الوثائقية. وكم من مُتلهّفٍ راكضٍ نجد اليوم، خلف تصوير آثام الآخرين بُغية تحقيق "الترند"!


ثلاثية الإنسان 


يهوى كيشلوفسكي التّعبير باللّامرئي: نظرات، صمت، فراغ بين الكلمات. هذه اللغة البصريّة الخاصّة، تعكس عدم قدرة الشّخص على الهروب من الذات والماضي، عبر وقتٍ يتوقّف ويستمر في آن معاً.


نبدأ مع "Trois couleurs: Bleu"، الذي يمثّل الحرية (Liberté) بحالة انكفاءٍ داخلي. بعد الموت تصبو شخصيّة Julie (تلعبها Juliette Binoche) إلى عزلةٍ، لكنهّا سرعان ما تعود إلى الحياة من خلال الموسيقى والعلاقات غير المتوقّعة. لنجد أنَّ القصّة ليست عن الحزن، بل عن خلقه وتجاوزه عبر الحب!


وننتقل في "Trois couleurs: Blanc" إلى مفهوم المساواة (Égalité) بطريقة مُبطّنة وساخرة مع قصّة Karol، الحلّاق البولندي الذي خسر كلّ شيء بعد طلاقه. لكنَّه يستعيد الثّقة والإحساس بالانتصار عبر خطَّة انتقام مُحكمَة ضدّ زوجته السّابقة، وسُرعان ما تنقلب عليه.


حتى نصل ختاماً، مع "Trois couleurs: Rouge" نحو الأخوّة (Fraternité)، في قصّة غير تقليديّة عن الألفة الإنسانية عبر لقاءٍ غريبٍ بين عارضة شابّة وقاضٍ. ما يؤدّي إلى تكوين جسر إنساني غير مُتوقّع، يتعزّز بنهاياتٍ مشغولة ببصيرة أخلاقية وحُبّ أنيق، ليُعتبر أحد أهم الأفلام في مسيرة كريستوف كيشلوفسكي وفي السّينما العالميّة بالإجمال. الّا أنَّ تلك السّنة، 1994، غلّبت السّياسة السّينمائيّة فيلم Tarantino الدّموي "Pulp Fiction" على روعة كيشلوفسكي الإنسانيّة!


حلقات تلفزيونيّة وتحف سينمائيّة


في عروض "متروبوليس"، سيكتشف المشاهدون كيشلوفسكي كما سبقنا كثيرون إلى ذلك في الماضي، عبر الإصدارات السّينمائيّة للفيلمَين التلفزيونيَّين "A Short Film About Killing" و "A Short Film About Love". الأوّل حول جريمة قتلٍ مُطوَّلة ومؤلمة، يلحقها إعدام سريري دقيق ولكنّه أكثر إزعاجاً، لنجد فيلم كيشلوفسكي الأكثر رعباً. وفيه حوّل المُصوّر السّينمائي Sławomir Idziak مدينة وارسو إلى جحيمٍ بألوان الأخضر والبنّي المُصفرّة (والجدير ذكره أنَّ المُخرج Ridley Scott استقدم لاحقاً Idziak، لإعطاء وسط مدينة مقاديشو مُعالجة مماثلة في فيلم "Black Hawk Down" عام 2001).

أمّا في الفيلم الثّاني، فيُشرّح كيشلوفسكي العلاقة بين شابٍ بالكاد بلغ سنّ الرُّشد، وامرأة في الثّلاثينات من عمرها، يتجسَّس عليها كلّ ليلة. كما هي الحال في القتل، لا يتردد كيشلوفسكي أبداً... الأبعاد الجنسيّة فوضويّة ومُؤلمة في بعض الأحيان، لكنَّ العُنوان مُبرَّر أخيراً بتسلسُلٍ سردي غير عادي.


روح كيشلوفسكي في السّينما العربيّة


رغم أنّ المخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي لم يُخرج أفلاماً عن الهويّة العربيّة، إلا أنّ أثره الخفيّ يتسلّل بوضوح إلى أعمال عددٍ من المُخرجات والمُخرجين العرب، خصوصاً أولئك المهتمّين بـاللّحظة الداخلية وبسينما الفراغ الدلالي حيث يحضر الصّمت، والتردّد، والبُعد الأخلاقي.

لبنانيّاً، نشهد في أفلام الثّنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج، مثل "A Perfect Day" و "Je Veux Voir"، حضوراً قويّاً لتقنية التّوازي الوجداني التي برع فيها كيشلوفسكي. شخصيّتان في مكانَين، تتقاطع مصائرهما دون صِلةٍ مباشرة. التأمُّل البصري، الإيقاع البطيء والتّصوير الذّاتي للمُدن ككائناتٍ مُتعبة، كُلّها تذكّرنا بأسلوبه.

أمّا في السّينما المصريّة الحديثة، في أفلام مخرجين مثل أحمد عبد الله السيّد (Microphone, Heliopolis) وتامر السّعيد (In the Last Days of the City)، فنرى تأثيراً واضحاً لما يُمكن تسميته بالمدينة كذاكرة. كاميرا تُراقب دون حكمٍ وتنقل حياة أفراد يعبرون داخل شبكةٍ خفيّة من الصّدف، تماماً كما في فيلم "Trois couleurs: Rouge" أو "La double vie de Véronique". كما نجد مُخرجات عربيّات مثل آن ماري جاسر (Salt of This Sea) أو ميّ مصري في أعمالها الوثائقية، يُظهرن تفاعلاً حسّيّاً عميقاً مع موضوعات الهويّة، الفقدان والحنين. هنّ يعتمدن أسلوباً بصريّاً أقرب إلى نبرة كيشلوفسكي، من الحضور الأنثوي الخفيف والموسيقى، كأداةٍ شعوريّة إلى الحكاية كمرآةٍ داخلية.


لا مدرسة بل رؤية


لم يترك كيشلوفسكي وراءه مدرسةً واضحة، بل ترك رؤيةً إنسانيةً حسّاسة عن العالم، يتبناها صُنّاع أفلام عالميّين وعرب في كل لحظةٍ يُقرّرون فيها التقاط مشهد من دون أن يشرحوه، أو أن يترجموا شعوراً من دون تسميته. حتّى أنَّ أهمّ مُعجبيه من بين الكثيرين، المُخرج العبقري Stanley Kubrick، قال إنّ "كيشلوفسكي وشريكه المُعتاد كاتب السيناريو Krzysztof Piesiewicz، يتمتَّعان بقدرة نادرة على إضفاء طابع درامي على أفكارهما، بدلًا من مُجرَّد الحديث عنها. يفعلان ذلك بمَهارة مُبهرة، لدرجة أنك لا ترى الأفكار تلوح في الأفق، ولا تُدرك إلا لاحقاً مدى تأثيرها العميق في قلبك".


سينما كيشلوفسكي تجعل منه شاعراً بصريّاً يبحث في التفاصيل، صوتاً داخليّاً يُترجم الحياة اليوميّة إلى أسئلة أخلاقيّة، ونفساً تأمُليّاً تنبِّهُنا إلى تلاقي الغيب والمشهود. ولعلَّنا نجد بكل بساطة عبر استعادة "ألوان الحياة"، دعوة لتفعيل تأمُّلاتنا بالألوان الصّامتة في أعيننا، في فنّ الحُريّة والمساواة والأخوّة.


* للاطّلاع على كافة تفاصيل عروض "ألوان الحياة" في "سينما متروبوليس"، مار مخايل - بيروت، والحجز المسبق لمشاهدة الأفلام، زوروا موقع www.metropoliscinema.net .