من بشير إلى ميشال، حلمٌ مسيحي دار في دوامة فيلم سرديّته معلّقة، بحثاً عن بطل لا يُغتال، ولا ينتحر... سياسياً قبل أن يبلغ ذروة المشهد.
فمنذ أن اجتاح أبو عمّار لبنانهم كثورٍ هائج، ورفس توازنهم السياسي، دخل المسيحيون مرحلة الفقْد العظيم: فقْد الدولة، وفقْد الدور، وفقْد المعنى، وراحوا يبحثون عن بطل. بدوا كمن يبحث عن ونستون تشرشل بجينات فينيقيّة. رجل ترتجف له النار، يُمسك الدولة من خاصرتها، ويُعيد تجميع حطام المسيحيين بحزم قائدٍ عسكري، لا بخفّة زعيمٍ سياسي. وعليه، نشأت عاطفة استثنائيّة في لاوعيهم الجماعي بينهم وبين البزّة المرقّطة: كلّ عسكري مسيحٌ جديد، يحمل على كتفيه صليب الخلاص. علاقة عاطفية مرضية، نمت على أنقاض الخوف، وتغذّت من حنينٍ لماضٍ لم يكتمل، ومن بشيرٍ لم يمت تماماً!
اعتنق المسيحيون بدايةً مذهب بشير الجميّل. رأوا فيه بطلاً خرج من رواية. هتفوا له كما يهتف الجندي لقائده. لكنّ بطلهم سقط، اغتيالاً.
عوّلوا ثانيةً على أمين الجميّل، الأخ الدبلوماسي الذي لا يشبه أخاه العسكري. سلّموه الحلم في لحظة فراغ كبرى، لكنّ الحلم تسرّب من بين يديه، كما تتسرّب المياه من يدٍ تغتسل. لا لأنّه لم يُرِد، بل لأنّه لم يستطع.
آمنوا ثالثةً بدين ميشال عون. قائدٌ ناداهم بـ "يا شعب لبنان العظيم". عبارة عنى بها المسيحيين تحديداً، بعدما اقتحم القصر مرتين كمن يدخل حصناً. ظنّوه عودة الأصل، لكنّه بدا في نهاية عهده كمن انتَحر أو انتُحر.
تباعاً، غدت كلّ أحلام المسيحيين كوابيس معيوشة، مع "ميمٍ" ملتصقة بـ "منقذيهم"، بدءاً من بشير المغدور، إلى أمين المتردّد، وصولاً إلى ميشال المنهك. وعندما دخل جوزاف عون القصر، عاشوا لحظةً اعتبروها تصحيحاً للتاريخ. فهو البطل الذي ظلّ واقفاً فوق أرضٍ رخوة بحذاءٍ عسكري صلب وموقفٍ متماسك. لم يتورّط في بازار السياسة عندما دخل اليرزة، ولم يغرق في وحول الطموح الرخيص. أسقطوا عليه صورة المنقذ الذي ظلّت المخيّلة تبحث عنه: رجل من صخر المؤسسة العسكرية لا من وحل النادي السياسي، يرتدي بزّة مرقّطة ويحمل جذوراً فينيقية، لا يُغتال كبشير الجميّل، ولا يتردّد كأمين الجميّل، ولا ينتحر كميشال عون. وعليه، علّقوا خلاصهم على خشبته، وقد ساعدتهم في ذلك طريقة انتخابه. شعر لبنان كلّ لبنان في 9 كانون الثاني، أنّ فرقة من المارينز ترابط في مرفأ بيروت، تحرس البرلمان من هناك، وصوتٌ بعد صوت، انتخب القائد رئيساً. المشهد ليس مبايعةً، بل تسليماً يليه تسليم لسلاح "حزب الله"، هذا السلاح الذي مثّل بالنسبة لكثير من المسيحيين، الوجه الجديد لمشروع قديم حملته الأيادي الفلسطينية. سلاح همّش هويتهم ودورهم مرّات ومرّات، باسم القضية الفلسطينيّة.
سلّم البرلمان بكليّته لجوزاف عون، ولكن "حزب الله" لم يسلّم السلاح... إلاّ جزئياً. ما يُقلق أمن إسرائيل تُلف، وما يُقلق أمن اللبنانيين من غير الشيعة، يُحيله الرئيس عون إلى مكاشفة ثنائية عرّابها رئيس المجلس النيابي، فيما المسيحيون الذين بدوا كبالون منتفخ بالأحلام والتطلّعات في بداية عهده، هم أشبه اليوم ببالون "منفّس" فقد الهواء. يساورهم الخوف من أن يتحوّل جوزاف عون إلى نسخة جديدة من أمين الجميّل. رئيس أتى في لحظة دولية مؤاتية، لكنّه يخسر الزخم قبل أن يتحوّل إلى مشروع إنقاذ فعلي. فـ "المومينتوم" في لبنان سريع التبخّر، ودونالد ترامب رجل أعمال. يُطلق صافرة الانطلاق، ثمّ يمضي بلا التفات. قطاره لا ينتظر المتأخّرين، ولا يعود أدراجه لمن فاته الموعد. وانطلاقاً من هذه الثابتة الأميركيّة، يطوف سؤال محرج على وجه الجمهورية: هل يخسر لبنان مرّة جديدة لحظة دوليّة نادرة لا تُستعاد؟ وهل الرئيس عون متردّد قد يُدرَج اسمه في خانة من أضاعوا الفرصة؟
من يرمون جوزاف عون بالتردّد، جاءهم الردّ الأولي من الدوحة على لسان "امرأة السوط" مورغان أورتاغوس: ما فعله عون في ستة أشهر، لم يفعله سواه في خمسة عشر عاماً. جملة جنّبت العهد جلدة، واختصرت ربّما فرقاً سطّره صاحب خطاب "وحدة السلاح"، ولكن مع ذلك لم تُطمئن المتوجّسين.
فماذا تقول مصادر بعبدا؟
تفيد المصادر، بأنّ الرئيس جوزاف عون ماضٍ في تحقيق هدف وحدة السلاح بثبات، رغم التحديات المتراكمة، وتعتبر أنّ في رويّته هدوء العارف وحكمة من يُدرك تعقيدات اللحظة اللبنانيّة. وتتحدّث المصادر عن سياسة واحدة يعتمدها منذ 17 تشرين ولن يحيد عنها: لا يسمح بإراقة نقطة دم واحدة، ويؤمن أنّ ملفّ السلاح "ما بينحلّ بالنقار" وبالانفعال والمواجهة، بل بالحوار الهادئ والمسؤول. وتضيف أنّ الرئيس كان ينتظر بعين الأمل والترقّب ما ستؤول إليه المحادثات الأميركية ـ الإيرانية ليبني على الشيء مقتضاه.
تركّز المصادر على أنّ الرئيس أخذ بالحسبان طيلة الفترة السابقة عمق الجرح الشيعي، بدءاً من جرحى تجاوز عددهم العشرة آلاف، إلى أكثر من مئة ألف مواطن بلا منازل. ومن هنا تنبع مقاربته الحذرة، التي لا تتجاهل الحقيقة، لكنّها ترفض الانفجار.
وهل يعني هذا الكلام أنّ أفق تسليم السلاح بات مفتوحاً؟
تجيب المصادر بثقة، أنّ عام 2025 هو عام حصر السلاح، وتطرح بدورها سؤالاً مضاداً: لمَ التوجّس، ما دامت سوريا المعبر التقليدي للسلاح قد أُقفلت، وما دام مطار بيروت تحصّن، والمرفأ في طريقه إلى الانضباط؟
أكثر من ذلك، تؤكّد المصادر أنّ الرئيس نبيه بري و"حزب الله" مدركان بأن لا أموال دولية ستُرصد لإعمار السقوف التي تهدّمت، ما لم يُحصر السلاح تحت سقف الدولة! وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: هل تصمد نوايا بعبدا ببناء الهيكل تحت سقف التنفيذ؟ وماذا لو قرّر "حزب الله" اليوم "ما يقعد عاقل" في ظلّ الحرب التي تشنّها إسرائيل على إيران؟
يجيب مصدر على تقاطع بين الداخل والخارج: لم يعد أمام "حزب الله" إلاّ سقف الدولة، بعد أن شاء بنيامين نتنياهو ضرب إيران، وفعل!