إيزابيلا تاباروفسكي

كيف أخفت "نيويورك تايمز" جرائم ستالين في أوكرانيا؟

31 تشرين الأول 2020

المصدر: Tablet

02 : 01

بعد وقتٍ قصير على بدء فيلم Mr. Jones للمخرجة البولندية أغنيسكا هولاند، يقول بطل القصة غاريث جونز، الذي جاء إلى موسكو لاستكشاف جهود الزراعة الجماعية في الاتحاد السوفياتي، إنه لا يحمل أي أجندة خفيّة بل يريد معرفة الحقيقة بكل بساطة. تدور الأحداث في العام 1933، حين عبّرت قوتان استبداديتان عن رؤيتهما العالمية المتعارضة في أوراسيا. تسأل آدا بروكس، مراسلة أجنبية في موسكو، جونز بأسلوب شبه ساخر عن أي حقيقة يبحث، فيجيبها بأنه يبحث عن "الحقيقة ولا يوجد إلا نوع واحد منها"!

كانت الحقيقة محور القصة التي تتناولها هولاند. هي تتطرق إلى المجاعة المميتة التي هندسها نظام ستالين واجتاحت أوكرانيا وحوض الفولغا ومنطقتَي "كوبان" و"دون" في شمال القوقاز وكازاخستان في شتاء 1932-1933. في أوكرانيا وحدها، حيث تُعرَف هذه الحقبة باسم "هولودومور" وغالباً ما تشير إلى مفهوم "القتل بالتجويع"، أودت المجاعة بحياة 4 ملايين شخص. في هذه الأرض الخصبة على نحو استثنائي، فرض ستالين مطالب مستحيلة في مجال الإنتاج وصادر جميع الحبوب والمواشي المتاحة واستعمل المجاعة اللاحقة للقضاء على الفلاحين، علماً أن مقاومتهم للزراعة الجماعية هدّدت بإضعاف جهوده في قطاع التصنيع.

لكن تعكس جريمة ستالين جانباً واحداً من القصة. أما الجانب الآخر فيتعلق بفشل العالم في نقل الوقائع والاعتراف بها بشكلٍ صادم. تورط الكثيرون في هذا الفشل، لكن كان الصحافيون الغربيون في موسكو من أبرز المذنبين حتماً، فقد نقلوا أخباراً خاطئة أو لم يغطوا الأحداث بما يكفي وفشلوا في نقل ما يحصل تحت أنظارهم. كذب والتر دورانتي، مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في موسكو، حول الأحداث الحاصلة وتعمّد تضليل قرّائه. في العام 1932، فاز هذا الصحافي بجائزة "بوليتزر" عن فئة التقارير الصحافية. استكشفت هولاند تواطؤ الصحافة في واحدة من أفظع جرائم جوزيف ستالين، وهذا ما يعطي الفيلم أهمية غير متوقعة في الزمن المعاصر، إذ يتعرّض دور وسائل الإعلام والصحافة بحد ذاتها للهجوم اليوم من جانب حكام دكتاتوريين مرتقبين أو شخصيات تظن أن الفضيلة هي التي تحكم على الحقيقة.





تستعمل هولاند في فيلمها بعض اللمسات الفنية لإعطاء طابع درامي للقصة، إذ تسمح جرائم القتل والمآسي وأجواء الصمت بتطوير الأحداث. لكن على أرض الواقع، لم يُقتَل أي صحافي قبل وصول "جونز" إلى موسكو ولم تكن الألغاز تحيط بمظاهر المجاعة في أوكرانيا، حتى في أوساط الصحافة الأجنبية في موسكو. صرّح مالكولم موغيريدج الذي كان حينها مراسلاً لصحيفة "مانشستر غارديان" خلال مقابلة بعد سنوات: "كانت المجاعة أهم مسألة في جميع أحاديثنا في موسكو... كل شخص تكلمنا معه كان يعرف بتلك المجاعة المريعة". وحتى الصحافة السوفياتية اعترفت بأن الناس كانوا يأكلون "بذور الحبوب والماشية". برأي موغيريدج، كان يسهل أن يفهم الجميع أن سكان تلك المنطقة يتضورون جوعاً أو أن "جميع المراسلين في موسكو كانوا يشوّهون الحقيقة".

بدأ جونز رحلته إلى أوكرانيا حين أنهى موغيريدج مغامرته هناك. لم يعرف أي واحد منهما بسفر الآخر قبل عودتهما. قطع الرجلان مسارات متنوعة وزارا أماكن مختلفة على الأرجح لكنهما توصّلا إلى الاستنتاجات نفسها. زار جونز خلال جولته في الريف الأوكراني 22 بلدة وقابل مزارعين كانوا يتضورون جوعاً أو على شفير الموت. تكلم جونز مع الفلاحين مباشرةً باللغة الروسية وكان يسجّل محادثاتهم بحذر. قابل أيضاً فلاحين انتقلوا موقتاً إلى بلدات محلية بحثاً عن الطعام. وحين عاد إلى موسكو، قابل بين 20 و30 عضواً من السلك الديبلوماسي الأجنبي. فاكتشف، على غرار موغيريدج، أن المجاعة التي فرضتها الحكومة كانت سراً معروفاً. ثم غادر جونز الاتحاد السوفياتي، بعد يومٍ على صدور آخر تقرير كتبه موغيريدج عن الموضوع في صحيفة "غارديان"، وعقد مؤتمراً صحافياً في برلين. ثم نشرت صحف متنوعة هذه القصة. للمرة الأولى، تمكّن الناس من نَسْب تقارير المجاعة إلى شخصٍ محدد شاهد ما يحصل بأم عينيه.

كانت تقاريـــر موغيريدج وجونز أقوى من أن يتحملها المكتب الصحافي السوفياتي وسرعان ما ضغط على المراسلين الغربيين لدحض تلك الأخبار. صدر إنكار عالي المستوى لاحقاً من جانب والتر دورانتي، مراسل "نيويورك تايمز" في موسكو والفائز بجائزة "بوليتزر"، وهو كان يمثّل السلطة الغربية الطاغية في جميع المسائل البلشفية. في 31 آذار 1933، نشرت الصحيفة مقالة دورانتي التي تُعتبر مشينة اليوم بعنوان "الروس جائعون لكنهم لا يموتون جوعاً"، حيث ناقش وقائع المجاعة: إنها حقائق كان متأكداً منها ولطالما ناقشها في محادثاته الخاصة.

كتب دورانتي أن الجوع حقيقي، لكنّ حالات الوفاة كانت تنجم عن أمراض مرتبطة بسوء التغذية ولا علاقة لها بالمجاعة. كان النقص موجوداً لكنّ الغذاء توافر في المدن الأكبر حجماً. أدت "حداثة" الزراعة الجماعية بكل بساطة إلى إحداث "فوضى في الإنتاج الغذائي".

لكن لم تنتهِ مهمّة دورانتي بإنكار المجاعة، بل كان ضرورياً أيضاً أن يشوّه سمعة المعسكر الآخر. فاعتبر جونز شاباً خياله واسع وكتب أن تجربته في روسيا بدأت وانتهت برحلة طويلة امتدت على ثلاثة أسابيع في أنحاء الريف الأوكراني (كانت هذه المعلومة غير دقيقة، فقد درس جونز اللغة الروسية في جامعة "كامبريدج" وزار البلد مرتَين سابقاً). ثم هاجم دورانتي أفكار جونز وحرّفها.

في النهاية، وجد جونز نفسه وحيداً في وجه "دورانتي العظيم" وصحيفته المرموقة. انتقدت وسائل الإعلام عمله الصحافي وابتعد عنه لويد جورج. ثم وجد الكثيرون صعوبة في تقبّل الحقيقة التي طرحها أو تصديق تقارير موغيريدج حين راح هتلر يستغل المجاعة في أوكرانيا في حملته الدعائية لمهاجمة الديموقراطيين الاشتراكيين الألمان وأوحى بأن "الماركسيين" في كل مكان كانوا مسؤولين عن جرائم ستالين الجماعية.

بعد هذه الحملة، اضطر جونز للعودة إلى دياره وانضم إلى "وسترن ميل" و"ساوث ويلز نيوز" كمراسل مبتدئ ثم ركّز جهوده خلال الأشهر اللاحقة على ألمانيا النازية. حين سافر إلى هناك في شهر أيار، اكتشف أن توقعاته السابقة عن توجّه ألمانيا بأقصى سرعة نحو حُكْم دكتاتوري فاشي أصبحت حقيقة ملموسة. لقد شعر بالذهول أمام "ضربة الموت" التي وجّهها هتلر للديموقراطية الألمانية وصُدِم أيضاً بحملة الكره "الوحشية والهمجية" التي أطلقها ضد اليهود وناقش هذه المسائل بالتفصيل.





في الوقت نفسه، اشتدّ الهجوم على موغيريدج الذي غادر موسكو بعد وقتٍ قصير على رحلته إلى أوكرانيا. تابع هذا الصحافي كتابة مقالات من توقيعه عن المجاعة، لكنه أصبح الآن "مُنتهياً"، فقد تعرّض للتشهير والنبذ والتجاهل ولم يعد يستطيع إيجاد عمل.

خلال العقود اللاحقة، اعتُبِر هذا المهاجر الإنكليزي السوفياتي الطَموح "محارباً بارداً" ورجعياً أو خصماً لسياسة الانفراج. شعر موغيريدج خلال بقية حياته بالذهول بعد وقوع تلك الأهوال كلها وتجاهل الجميع لما حصل.

بعد امتناع معظم الصحافة الأجنبية في موسكو عن تغطية المجاعة الوحشية والقاتلة التي افتعلها ستالين عمداً في أوكرانيا، لا مفر من طرح بعض الأسئلة المزعجة: لماذا قرر هذا الكم من الصحافيين تجاهل تلك القصة الضخمة التي حصلت تحت أنظارهم؟ وما الذي دفعهم لقبول الضوابط التي فرضتها السلطات السوفياتية على تحركاتهم وتقاريرهم؟ ولماذا امتنع هذا العدد الكبير من الصحافيين عن كشف تلك الضوابط أصلاً؟

لا شك في أن المكتب الصحافي السوفياتي استعمل نفوذه القوي ضد الصحافيين الغربيين. استغل المسؤولون فيه حاجة المراسلين إلى المعلومات واستفادوا من المنافسة بينهم. كان دور الرقابة مؤثراً في هذا المجال أيضاً. اضطر الصحافيون لتقديم جميع المقالات التي يكتبونها إلى أجهزة الرقابة السوفياتية، لذا تعلّموا سريعاً أن يفرضوا على أنفسهم رقابة ذاتية: ما الداعي لإهدار وقتهم في كتابة مقالة لن تبصر النور يوماً؟ كذلك، كان البعض يخشى على الأرجح أن يخسر منصبه المرموق الذي وصل إليه بعد جهود شاقة: لم يرغب أحد في العودة إلى دياره وخسارة وظيفته في زمن الكساد العظيم.

لكن تبرز عوامل مؤثرة أخرى طبعاً، منها الشخصية الفردية للصحافيين وقناعاتهم الذاتية. في تلك الحقبة التي شهدت انقسامات عميقة، كان يجب أن يكون الفرد مستقلاً في آرائه كي يفهم المشهد العام ويجرؤ على كتابة الحقيقة، وقد أدرك موغيريدج وجونز المخاطر الكبرى التي يطرحها النظامان النازي والسوفياتي.