بشارة جرجس

ماذا بعد الضربة الأميركية: تفكيك الردع أم تفكك النظام؟

ئمنذ أكثر من عقدين، شكّل البرنامج النووي الإيراني التحدّي الأبرز أمام الأميركيين، الأوروبيين، ودول الخليج وإسرائيل. اليوم، يؤكّد الرئيس دونالد ترامب أنّ هذا البرنامج أُخرج من المعادلة.


منذ أواخر 2011، كان هناك معسكر واسع يرى أن الضربة الجوية الأميركية ضد منشآت إيران النووية هي السبيل الوحيد لمنع طهران من امتلاك القنبلة. معارضو هذا الطرح اعتبروا التعايش مع "إيران نووية" أقلّ خطرًا من ضربها، لكنّ رؤساء الولايات المتحدة، وترامب أكثرهم وضوحاً، تمسّكوا بخط أحمر صارم: لا سلاح نووياً لإيران. فجاءت الضربة السريعة والمدمّرة.


ردُّ إيران اقتصر حتى الآن على دفعات محدودة من الصواريخ الباليستية باتجاه إسرائيل، فيما تشير التقديرات إلى نفاد نصف مخزونها الأساسي، الذي كان يناهز ألفي صاروخ. وكلما نقص مخزون الصواريخ، تراجعت فاعلية النظام وقدرته الردعية. وقد تلجأ طهران إلى الإرهاب العابر للحدود، أو الأسلحة البيولوجية، أو تهديد الملاحة في مضيق هرمز، لكنّ كل خيار من هذه يضع النظام على عتبة الزوال بوتيرة أسرع.


أوضح ترامب أن الهدف من العملية لم يكن إسقاط النظام بل تحييد البرنامج النووي، ملوّحاً بـ"قوة غير مسبوقة" إذا تمادت إيران في التصعيد. فقد انتهى السباق الإيراني نحو القنبلة: قُتل وأُصيب عدد من العلماء الأساسيين، وتفكّكت البنية التحتية، وإعادة البناء تحتاج إلى سنوات وأموال لا يملكها النظام بعد "استثمار" عقيم لعقود.


تحييد التهديد النووي يتيح لواشنطن إعادة تركيز جهودها على رسم شرق أوسط أكثر انسجاماً مع حلفائها: السعودية، الإمارات، قطر، الأردن، إسرائيل، وسائر الدول كسوريا، لبنان، العراق، والسلطة الفلسطينية. كما يسمح بتوجيه الموارد إلى احتواء التحدي الصيني.


رغم خمس جولات تفاوضية في عُمان وإيطاليا، حسم ترامب المهلة التي منحها لطهران (60 يومًا في نيسان). فجاء التفوق الجوي الإسرائيلي في "عملية الأسد الصاعد"، وعمليات الاغتيال الدقيقة، ليقنعه بأن اللحظة مؤاتية. نجح نتنياهو، بعد سنوات من التحذير، في إقناع الرئيس الأميركي بأن ضرب البرنامج النووي يخدم مصلحة الطرفين. أما الاتهامات القديمة بأن إسرائيل "تجرّ" واشنطن إلى حرب، فتبدو اليوم تكراراً لأساطير يسارية مهترئة: فكل دولة تواجه تهديداً وجودياً تطلب دعماً من حليف أقوى، ببساطة.


ظنّ خامنئي أن ترامب، كرؤساء البيت الأبيض السابقين، يسعى إلى "صفقة كبرى"، وأن التهديد بالقوة خدعة تفاوضية يمكن تجاوزها. لكن الرهان على الوقت تلاشى، ووجدت طهران نفسها فجأة تحت القصف وهي لا تزال تتمسّك بخطابات خشبية لم تعد تُصرف.


وإن صحّت التقارير التي تشير إلى أن الدمار كان أقل من المُعلن، فقد تواجه واشنطن سباقًا جديدًا ضد النظام الإيراني، ما يفرض عمليات إضافية لردع طهران واحتوائها. ورغم تكلفة الاحتواء، قد يظلّ أقل كلفة من حرب شاملة.


المنطقة اليوم تتجاذبها رؤيتان:


* رؤية تركّز على التهدئة وانخراط إيران بدل عزلها.


* ورؤية مضادة، تتبنّاها دول عدة في العلن أو الخفاء، تسعى إلى تفكيك منظومة "الممانعة" عبر إنهاء قدرات حزب الله وتدمير البرنامج النووي تمهيداً لإسقاط النظام.


الدول الخليجية تخشى تحوّل أراضيها إلى ساحة حرب، وانهيار مشاريعها التنموية، وتهديد أمن الملاحة. لذلك، تطالب بمسار دبلوماسي عاجل تقوده عُمان وربما الرياض.


كان أمام واشنطن مساران لا ثالث لهما:


1. مسار عسكري طويل المدى، يهدف إلى تفكيك البرنامج وربما تغيير النظام، لكنه مكلف ومحفوف بالمخاطر.


2. أو مسار دبلوماسي يجنّبها حرباً شاملة ويخفّف التوترات، بشرط قبول إيران بالانخراط في النظام الإقليمي، مع استمرار هاجس الطموحات النووية.


حتى 13 حزيران، كانت الولايات المتحدة تحاول الموازنة بين المسارين. أما الآن وقد تغيّرت قواعد اللعبة، فالسؤال المطروح: أيّ شرق أوسط تريد واشنطن أن تراه؟ وكم هي مستعدّة لدفع كلفته بالشراكة مع حلفائها في المنطقة؟


كان الاعتقاد السائد أنّ الطريق لإضعاف النظام الإيراني يمرّ عبر العقوبات والضغوط المتدرجة. لكنّ الضربة الإسرائيلية الأخيرة قلبت المعادلة، دون أن تُلغي الأساس: تغيير النظام يتطلّب حكماً مُنهكاً ومفككاً.



الشرط الأول: تفكيك أدوات الردع الإيرانية

خلال أيام، عطّلت إسرائيل البنية النووية، واستهدفت القيادة العسكرية، وامتدت عملياتها على معظم الأراضي الإيرانية. النتيجة كانت انهيار هيبة المرشد الأعلى، الذي بنى سمعته على خطاب "المقاومة" و"ردع الغرب"، فإذا به يظهر عاجزاً أمام ضربات كشفت هشاشة منظومته العسكرية والاستخبارية والدفاعية.


الشرط الثاني: تآكل الهيبة داخلياً

صمدت الجمهورية الإسلامية لأربعة عقود بفضل القمع وحسابات الخوف. اليوم، وفي ظل قيادة عجوزة، وفساد مستشرٍ، وتضخّم متصاعد، تفقد الدولة ما تبقّى من شرعيتها. ولأول مرة، تبدأ الشكوك تتسرّب إلى الحرس الثوري نفسه حول جدوى المغامرة النووية التي استنزفت المليارات وتحوّلت إلى سراب.


معادلة القوّة والقمع

رغم تصفية الرؤوس القيادية، ما زالت أجهزة القمع، من الحرس إلى الباسيج ووزارة الاستخبارات، تحتفظ بقدراتها داخلياً. ولكي تتحوّل الهزّة إلى انهيار، لا بدّ من استهداف هذه المفاصل الحساسة.


تفكيك شبكة الولاءات

يُمسك النظام بخيوط الولاء عبر شبكة رعاية اقتصادية تديرها العائلات الدينية والحرس الثوري. فإذا شُلّت منشآت النفط والغاز، وتعذّر تمويل حلفاء الداخل التقليديين، ستتزايد الانشقاقات، وترجّح كفّة الاحتجاج الشعبي المقبل.


فخ العودة إلى "الصفقة"

استكمال ضرب الردع الإيراني جيد جداً، لكنّ الخطر الأكبر أن يُعاد تدوير الأزمة عبر هدنة دبلوماسية تُنقذ النظام.


بانتهاء الجولة العسكرية، قد تميل واشنطن وتل أبيب إلى إعلان النصر السريع، لكن اللحظة الذهبية لتفكيك النظام تأتي بعد صمت هدير الصواريخ، لا خلالها. فالنظام لم يواجه في تاريخه أزمة شرعية كهذه، والفرصة سانحة لترجمة صدمة الضربة إلى تحول داخلي مستدام.


الشارع الإيراني أثبت مراراً قدرته على الاحتجاج، والولايات المتحدة قد فتحت باب الأمل، فلتتركه مفتوحاً. لأنّ سقوط النظام الإيراني ليس خلاصاً للإيرانيين وحدهم، بل أيضاً لغالبية شعوب الخليج، العراق، سوريا، اليمن، وبلدي لبنان.