إنقاذ "جيل سوريا الضائع"

18 : 08

ريدرز دايجست- تساعد المنظمات غير الحكومية أولاد اللاجئين السوريين لاستئناف دراستهم وإعادة بناء حياتهم. في شهر آب، جلس تسعة أولاد سوريين في صف يغمره نور الشمس في بلدة زفتا الجنوبية اللبنانية. كانت لوحات العرض مغطاة برسوم مبهجة: بالونات، مثلجات، طبيب مبتسم مع سماعته. شمل الصف مجموعة من الصبيان والبنات الذين يرتدون الجينز أو التنانير الطويلة والقمصان القطنية، وبدا الجميع متنبّهاً للدرس. لم يكن أحد يثرثر. كانت المعلمة تقرأ كلمات باللغة الإنكليزية وتنتظر أن يكررها التلاميذ.

أوقفت تقوى دراستها في تشرين الثاني 2014، حين كانت في قرية زراعية سورية. كانت في مدرستها، حين اقتحمت مجموعة من الغرباء الملتحين يرتدون زياً أسود المكان. ارتعد الأولاد خوفاً حين مزّق عناصر "داعش" الصور على الجدران وأحرقوا العلم السوري، وما لبسوا أن هربوا إلى منزلهم مرعوبين.

شهدت عشرات الصفوف مقابل وادي النهر النوع نفسه من المشاهد الصادمة. أغلق تنظيم "داعش" المدارس، ومنع استمرار الدروس لكنه عاد وفتحها لاحقاً مستبدلاً المنهج النموذجي بمنهجٍ جديد لغسل أدمغة التلاميذ.

فرضوا قواعد لباس جديدة ومنعوا السكان من التدخين أو شرب الكحول أو مغادرة بلدتهم.

خلّف الصراع جيلاً كاملاً مُهدداً بالأمية. هرب أكثر من 5 ملايين سوري، ولجأت الأغلبية الساحقة إلى بلدان مجاورة تكافح الفقر بدورها. كانت حياة عدد كبير من السوريين بالغة الصعوبة. لم تسنح لهم فرصة التعلم إذ كانوا عالقين وسط الصراعات.

يصف بيل فان إسفيلد، باحث بارز في مجال حقوق الطفل من منظمة "هيومن رايتس ووتش" الوضع: "يعيش معظم اللاجئين دون خط الفقر. يضطر الأولاد للعمل لإعالة عائلاتهم، وتخضع الفتيات لضغوط متزايدة كي يتزوّجن باكراً".

مع ذلك، وضعت مدارس لبنان نظاماً يسمح لأولاد اللاجئين بحضور الدروس عبر تقسيم اليوم الدراسي إلى "دوامَين"، فيخصص صباح أحد الأيام للطلاب اللبنانيين وصباح اليوم التالي للسوريين. تُعلّم المدارس السورية اللغة العربية حصراً، بينما تُعلّم المدارس اللبنانية بعض المواد باللغة الإنكليزية أو الفرنسية، لذا لم يكن الأولاد السوريون الأكبر سناً أية خلفية لغوية تدعم مسار تعلّمهم.

كان الأولاد المقيمون بالقرب من بلدة زفتا محظوظين. في حزيران 2017، فتحت مدرسةٌ أبوابها لأولاد اللاجئين. تقع المدرسة في مبنى سكني متواضع، وتفتح أبوابها في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، فيتدفق الأولاد حينها إلى أربعة صفوف بعد ترجّلهم من حافلة صغيرة. عُلّقت رسوم ملوّنة لنحلٍ عملاق على الجدران وكُتِب عليها عبارة: "أهلاً بكم في خلية النحل".

في أحد الصفوف، جلس أولاد في عمر الثالثة أو الرابعة حول طاولات منخفضة وراحوا يمررون أقلام التلوين لبعضهم ويُلوّنون أشكالاً حمراء. تناهي إليهم صوت امرأة تغني. يهدف الجو هذا إلى تهدئتهم. تقود سارة جلسات الدعم النفسي لكلّ طفل يومياً. حين بدأ اللاجئون يتدفقون إلى المدرسة، كانوا يبكون أو يعجزون عن الجلوس في مكانهم. لكن المعلمين يشجعونهم الآن على التعبير عن مشاعرهم. تسمع المعالِجة النفسية قصصاً صعبة دوماً، لكنها تسمح لكلّ طفل بتفيس ما بداخله، ثم تُغيّر الموضوع بسلاسة حين ينتهي. تؤكد سارة: "لا يجب يشعروا بالحزن طوال الوقت، بل عليهم الانطلاق في مسيرة التعلّم من الصفر في أجواء جديدة".

بعد ثلاثة أشهر من دروس القراءة والكتابة والحساب، يتوزّع الأولاد على "دورتين" تمتدان على ستة أسابيع، ويكون معظمهم جاهزاً للتسجّل في مدارس لبنان العامة. هدف المدارس مساعدة أكثر من 27 ألف ولد لاجئ في مختلف أنحاء لبنان والأردن، على امتداد ثلاث سنوات. ورغم أنّ المدارس دافئة وآمنة وتضمّ عدداً من المعلمين المتفانين يتوقّف عملها بشكل متكرّر. حين فتحت أبوابها، كان الأولاد السوريون المقيمون في الجوار تركوا مدرستهم منذ سنين. كانت تلك تجربة صعبة.

كان مندوبون من المنظمات غير الحكومية يقرعون أبواب اللاجئين لتسجيل بعض التلاميذ. لكن حين أدرك الأهالي هوية من يزورهم، توتّر الجو سريعاً. قال أحد الرجال: "اذهبوا من هنا. لا أريد مقابلة أحد من المنظمات غير الحكومية. كلهم كاذبون".

سُجّل عشرة أولاد لاحقاً. لكن رفض أهالي ثمانية أولاد آخرين مناقشة الموضوع. كان يجب أن يكتسب المندوبون ثقتهم. بعد ثلاثة أشهر، بدأ عدد الأولاد المسجلّين يرتفع.

أمام أحد الأبواب، دعا رجل هزيل المندوب ليدخل إلى شقة العائلة المتواضعة التي تقع فوق متجر كبير. عرض عبد الحميدي (40 عاماً)، وهو نحّات حجر من إدلب، نماذج مؤطّرة من أعماله اليدوية موضحاً أنه لم يوفّق في إيجاد عملٍ رغم مهاراته اللافتة وبالكاد يستطيع تأمين الطعام.

كشف عبد الحميدي أنّ ابنه الأصغر محمد تسجّل في مدرسة حكومية، على عكس ابنَيه الأكبر سناً حسين (13 عاماً) وسامي (12 عاماً). يعمل الولدان مقابل 5 دولارات يومياً: حسين في المتجر الواقع في الطابق السفلي، وسامي في خدمة توصيل المياه. انفجرت زوجته مروى بكاءً حين كان يتكلم قائلةً: "يريد جميع الأهالي إرسال أولادهم إلى المدرسة لكنّ وضعهم المادي لا يسمح بذلك".

يعترف آلاء، ابن طبيب نشأ في مدينة صيدا المجاورة، بأنّ العمل هذا قد يكون صعباً من الناحية العاطفية. يخشى أن ينشأ "جيل غير متعلّم" في سوريا إذا لم يتلقَ الأولاد المساعدة اللازمة لدخول المدرسة. يقول آلاء: "لم يتعلم عدد كبير من أهالي أصدقائي بسبب الحرب الأهلية". كان يتكلم عن الصراع الطائفي الذي اندلع في لبنان بين عامَي 1975 و1990. كانت الحرب كفيلة بإعاقة مسار التعليم، ما أدى إلى انتشار الفقر، وارتفاع معدّل وفيات الأطفال، وتفشي أعمال العنف.

خلال تسعة أشهر من عام 2018، حضر 460 ولداً الصفوف في هذه المدرسة. في الخارج، ثمة فناء مُحاط بسور حيث يلعب الأولاد. لكن ينظّم المعلمون في هذا المكان أيضاً حفل تخرّج في نهاية كل دورة ممتدة على ستة أسابيع. لا يمكنهم أن يعطوا الأولاد شهادات حقيقية، لأن هذه الصلاحية تبقى حكراً على المدارس التي تديرها الحكومة، لذا صمّموا إطاراً ورقياً عُلّقت على زاويته قبعة التخرّج. يتصور الأولاد بشكلٍ متلاحق خلال الحفل وتُسجَّل ابتساماتهم لالتقاط لحظة واعدة من حياتهم.

آمال بالعودة

لا يزال وضع أولاد اللاجئين "مريعاً". تبدو أهداف الحكومة والمنظمات غير الحكومية بشأن التحاق الأولاد بالمدارس متواضعة، فقد بقي أكثر من 300 ألف ولد سوري من أصل 630 ألف ولد مقيم في لبنان خارج المدارس الرسمية في عام 2017. يجب أن تتخذ الحكومة خطوات إضافية، وإلا سيُخيّب الجميع آمال هؤلاء الأولاد. على غرار جميع اللاجئين في أنحاء البلد، لا يزال معظم العائلات يواجه التحديات. يشعر الأولاد بالحماسة تجاه فكرة استئناف التعلّم. قد يكون التعليم المنزلي بدائياً، لكن الأولاد يتعلّمون بفضله تقدير قيمة التعلّم. في نهاية المطاف يبقى العلم نوراً والجهل ظلاماً!

MISS 3