في يومٍ من تلك الأيام الغابرة أعلن حسن نصر الله أن زمن الهزائم قد ولّى. ولأن وعده صادق، صرنا ملزمين بالانتصارات.
في الماضي، كان هذا الاعتقاد محصورًا بحتمية الانتصار في المستقبل، وهو أمر غذّته حينها الأفكار الماركسية التي تؤمن بالكثير من الحتميات. أما اليوم، فحتمية الانتصار صار لها مفعول آني، وقد يصير لها مفعول رجعي أيضًا، فنصبح منتصرين في حروب كنا نعتقد أننا خسرناها في الماضي.
ولأن لداء الانتصار المزمن هذا فوائده السيكولوجية والسياسية، فليس من حاجة للاستعجال في السعي للشفاء منه. فهو يحمي المصابين به من إحباطات الواقع وشروره، فضلًا عن أن ادعاء الانتصارات أيسر بكثير من تحقيقها.
ويساعد في الأمر هذا أنه ليست هناك عادة معايير واضحة للنصر. فهي تخضع للتوقعات التي هي بدورها متغيرة باستمرار. فحتى في الألعاب الرياضية التنافسية، حيث معايير النصر والهزيمة واضحة، قد يُنظر إلى تعادل أو خسارة غير فادحة على أنها انتصار عندما تكون خلافًا للمتوقع.
أضف طبعًا أن معايير النصر والهزيمة تخضع لما سيحمله المستقبل، بما فيه ذلك المستقبل البعيد. وهذا كفيل وحده بأن يبقي شعلة النصر مضاءة بحسب رغبات وأمنيات المشاهدين. فإذا كنا، كما قال الكاتب المسرحي سعدالله ونوس يومًا، "محكومين بالأمل"، فنحن أيضًا، ولنفس السبب، محكومون بما يسمى بالعامية "الهبل".
ولعل من المفيد، وإن كنت أشك بذلك، تذكير الجمهور المصاب بداء الانتصار المزمن ببعض الحقائق المتعلقة بالحرب الأخيرة، فلربّما خفّف التذكير من حمّى هذا المرض.
أولًا: قبل المواجهة بين اسرائيل و"حزب الله"، كانت توقعات الأخير تتراوح بين تدمير منشآت إسرائيل الأساسية في أقل من ساعة واحتلال أجزاء من الجليل إذا ما تجرأت اسرائيل وخرقت "قواعد الاشتباك". تغيرت طبعًا هذه التوقعات مع نجاح إسرائيل في القضاء شبه الكلي على قيادات "الحزب" وكوادره العسكرية وتدمير بناه التحتية، فانخفضت التوقعات ومعها متطلبات النصر إلى الاكتفاء بمنع اسرائيل من الدخول إلى بلدات وقرى الحافة. وعندما دخلت إسرائيل تلك المناطق بعد أن قتلت من قتلت ودمرت ما دمرت، صارت معايير النصر تقتصر على صمود مقاتلي "الحزب" أسابيع عدة.
ثانيًا: أما إيران، التي تبعد مئات الكيلومترات عن إسرائيل وتكبرها سكانًا بتسعة أضعاف، ومساحةً بستين ضعفًا، وتُقدم نفسها على أنها دولة شبه عظمى، فقد أظهرت مواجهتها مع إسرائيل أنها لا تختلف كثيرًا عن مواجهة أذرعها، وإن تمتعت بقدرة صاروخية أعلى نسبيًا. فقد استطاعت إسرائيل تثبيت سيطرتها الكاملة على السماء الإيرانية، من دون خسارة أية طائرة. كما تمكنت من حصد أهم قادة إيران العسكريين (قد يصل عددهم إلى ثلاثين جنرالًا، مقابل مجند إسرائيلي واحد)، وهذا بالإضافة إلى باقة من علمائها النوويين، معلنة بذلك قدرتها على الوصول إلى أي هدف تريده. وحتى بمعايير الأذرع، لا يمكن أن يُعد هذا انتصارا لإيران.
ثالثًا: لقد عودتنا إسرائيل منذ نشأتها على أنها لا تخفي خسائرها ولا تبالغ في انتصاراتها. وهي مستعدة لأن تقول ذلك علنًا وان تنشئ لجان تحقيق لتحديد المسؤوليات عن أي تقصير من أجل استخلاص الدروس. فما فعلته بعد حرب 2006 هو أحد الأمثلة العديدة على استعداد إسرائيل للاعتراف بالفشل أو التقصير مهما كان حجمه. وإسرائيل اليوم سعيدة وفخورة جدًا بإنجازاتها في لبنان وإيران. لذا ربما كان علينا أن نأخذ بجدية ما تقوله إسرائيل عن إنجازاتها في هذه الحرب، وأن لا نشكك به لاعتبارات واهية وتحت وطأة حمى داء الانتصار المزمن.