منذ انسحاب تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري من الحياة السياسية اللبنانية عام 2022، دخلت الطائفة السنية في لبنان نفقاً مظلماً من الضياع السياسي والتمثيلي. هذا الانكفاء غير المسبوق لم يكن مجرّد حدث سياسي عابر، بل لحظة فاصلة كشفت هشاشة البنية القيادية داخل الطائفة، ووضعت جمهورها في موقع الدفاع عن الهوية والدور والكيان في وطن مأزوم.
الفراغ الذي خلّفه غياب تيار المستقبل – سواء من حيث التنظيم أو الخطاب أو التأثير – لم تتمكن أي جهة سنية أخرى من ملئه. فالمبادرات التي ظهرت، سواء بقيادة بهاء الحريري، أو من خلال شخصيات مستقلة ونيابية، لم تنجح حتى الآن في بلورة مشروع جامع، أو استقطاب تأييد شعبي وازن. وهكذا، وجدت الطائفة نفسها بلا رأس سياسي، وبلا مرجعية جامعة، وبلا مشروع واضح يمكن أن يشكّل رافعة لعودتها إلى ميدان التأثير الوطني.
في هذا السياق، بدأت تطفو على السطح ظواهر جديدة، أبرزها صعود رموز بديلة أو رمزية، في محاولة من بعض الأوساط الشعبية لملء هذا الفراغ القاتل. ومن بين الأسماء التي بدأت تتردد في المناطق الطرفية، لا سيما في البقاع الشمالي وعكار، اسم “أحمد الشرع”، الذي بات يُشار إليه في بعض المجالس والمجموعات الشعبية على أنه “الزعيم السنّي الجديد” أو حتى “الزعيم السنّي في سوريا ولبنان”.
رغم عدم وجود أي معلومات موثوقة ،إلا أن تداول الاسم يعكس حاجة نفسية واجتماعية وسياسية لدى جمهور فاقد للقيادة، ومهدّد بانكفاء كامل عن المشهد الوطني. “الشرع” هنا، لا يمثل شخصاً بقدر ما يمثّل حالة: حالة ضياع تبحث عن مرجعية، حتى لو كانت افتراضية أو وهمية.
هذا الاستخدام الرمزي لاسم “الشرع” يعكس أكثر من مجرد غياب سياسي؛ إنه تعبير عن شعور بالخذلان من الطبقة السنية التقليدية، وعن خوف حقيقي من مستقبل لا دور فيه للطائفة، في ظل صعود أطراف أخرى وتنامي نفوذها الأمني والسياسي على حساب الدولة. وما يزيد هذا الشعور عمقاً، هو أن المرجعيات الروحية مثل دار الفتوى، وإن كانت لا تزال محترمة، فإنها لا تملك أدوات القيادة السياسية ولا خطاب المواجهة.
بالتوازي، ما نشهده اليوم هو انكفاء الطائفة السنية داخل حدود طائفية ضيقة، بعدما كانت تاريخياً رافعة لمشروع الدولة، وشريكاً أساسياً في صياغة الكيان اللبناني الحديث. من موقعها العروبي، ومن موقعها المدني، لعبت الطائفة أدواراً جوهرية في تثبيت معادلة التوازن الوطني، وفي حماية صيغة العيش المشترك. أما اليوم، فهي تعيش حالة تهميش مزدوج: من داخلها، بسبب انعدام القيادة؛ ومن خارجها، بسبب الاستفراد بالقرار الوطني من قبل قوى أخرى تملك السلاح والنفوذ.
وهنا تكمن الخطورة الأكبر: فهذا الفراغ داخل الطائفة، وهذا الضياع في الزعامة، يُستخدم اليوم كذريعة من قبل الثنائي الشيعي – وخصوصاً حزب الله – للتمسك بسلاحه، تحت عنوان “الدفاع عن الوجود الشيعي” في وجه ما يُصوَّر على أنه خطر آتٍ من بيئة سنّية مضطربة. فكلما ازداد التشتت داخل الطائفة السنية، كلما بات من السهل تصويرها كبيئة خصبة للتطرف أو النفوذ الخارجي، وبالتالي يُمنح السلاح وظيفة دفاعية مزعومة في وجه هذا التهديد، وهو ما يُشكّل خطراً مباشراً على مشروع الدولة وعلى وحدة لبنان.
ومن هنا، تبرز مسؤولية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، في العمل معاً على إعادة تنظيم العلاقة مع النظام في سوريا، على أسس واضحة ومؤسساتية وعلنية، لا أن تُترك هذه العلاقة بيد أطراف تستثمر فيها لأهداف سياسية أو طائفية. فالصمت الرسمي عن طبيعة هذه العلاقة، وغياب أي سياسة خارجية واضحة، هو ما يسمح بنشوء قنوات غير شرعية، أو “زعامات موازية”، أو مبادرات مشبوهة قد تتغذى من هذا التهميش، وتُستخدم لاحقاً لتبرير استمرار السلاح بحجة مواجهة الخطر السنّي غير المنضبط.
إعادة صياغة العلاقة مع دمشق، ضمن مقاربة سيادية مدروسة، لم تعد خياراً سياسياً فقط، بل أصبحت أولوية أمنية ووطنية، إذا ما أرادت الدولة أن تستعيد دورها وتحاصر كل مظاهر الفوضى والاستثمار الطائفي في الداخل.
ختاماً، الطائفة السنية في لبنان أمام منعطف مصيري: إما أن تنجح في إنتاج قيادة جديدة تعبّر عن وجدانها وهويتها ودورها الوطني، وإما أن تستمر في حالة التيه والانكفاء، فتتحول إلى طائفة بلا وجه، وبلا حضور فعلي في النظام اللبناني. أما أسماء مثل “أحمد الشرع”، فهي ليست حلاً ولا مشروعاً، بل نتيجة طبيعية لحالة غياب عميقة تتطلب أكثر من الإنكار، بل تتطلب عملاً سياسياً حقيقياً، ورؤية وطنية صادقة، وصراعاً سلمياً من أجل استعادة المكانة والدور.