في الرابع من آب 2020، تحوّل قلب العاصمة بيروت إلى رماد، وإلى جرح لا زال ينزف معاناةً وألماً ودموعاً، انفجار كارثي هزّ المرفأ، دمّر أحياءً بأكملها، وأودى بحياة أكثر من 240 ضحيًة، وجرح الآلاف من الأبرياء، وترك وراءه جراحاً نفسية وجسدية لا تندمل. ولكن، وبعد مرور ما يقارب الخمس سنوات على ذاك اليوم المشؤوم، لا تزال الحقيقة قيد الحجز، والعدالة في الأسر، بفضل منظومة سياسية تمارس أخطر أنواع التواطؤ: تواطؤ الصمت والتعطيل.
فما الذي يمنع حتى اليوم صدور القرار الظني؟ من يضع يده على القضاء، ويشلّ يد العدالة؟ من يخشى الحقيقة إلى هذا الحد؟ الجواب بات واضحًا: إنها تلك الطبقة السياسية نفسها، التي تخشى أن يكشف التحقيق وجوهًا من داخلها، مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن التخزين، الإهمال، التغطية، أو التواطؤ.
منذ اللحظة الأولى، حاولت السلطة دفن الجريمة تحت ركام السياسة. من عرقلة التحقيق المحلي إلى رفض التحقيق الدولي، إلى استدعاء الضغوط والتهديدات لإيقاف القاضي طارق البيطار، ثم إلى مسرحية "القبع القضائي" ومحاولات تغييب المحقق العدلي، تُثبت هذه المنظومة أنها عدوة للحقيقة وعدوة للشعب اللبناني.
الأسوأ من كل ذلك، أن هذه السلطات لم تكتفِ بعدم تقديم الحقيقة، بل تحاول طمسها بالكامل، وكأن الضحايا مجرد أرقام، وكأن بيروت لم تُفجّر، وكأننا شعب بلا ذاكرة، بلا كرامة، وبلا حق في المساءلة والمحاسبة.
إن مرور خمس سنوات على جريمة بهذا الحجم من دون محاسبة هو جريمة إضافية، لا تقلّ فظاعة عن التفجير نفسه. جريمة ارتكبها مَن يُفترض بهم حماية العدالة، وصون الدولة، واحترام أرواح المواطنين. لكنهم، وكما أثبتت كل تجارب اللبنانيين معهم، لا يرون في الدولة سوى مزرعة، ولا في الناس سوى أدوات انتخابية موسمية.
العدالة لتفجير مرفأ بيروت ليست مطلبًا سياسيًا، بل قضية وطنية، إنسانية، أخلاقية. وكل يوم يمرّ من دون كشف الحقيقة هو يوم يُضاف إلى عمر الجريمة. وأمام هذا الاستهتار، لا بد من استمرار الضغط الشعبي، المحلي والدولي، لإبقاء هذه القضية حيّة، ولمنع دفنها في أدراج قضاء بعضه محكوم، وسلطة لا تحترم الشهداء ولا الجرحى ولا الأحياء.
هل يُعقل أن انفجارًا بهذا الحجم، هزّ ضمائر العالم بأسره، لا يزال حتّى اليوم بلا موقوف واحد فعليًا على ذمّة التحقيق؟ هل يُعقل أن تمرّ هذه الجريمة، التي أحرقت قلوب اللبنانيين وهزّت عواصم العالم الحر، من دون أن تترنّح أعواد المشانق برقاب المجرمين الذين استوردوا تلك المواد المتفجّرة، وخزّنوها في مرفق عام، وسط عاصمة مكتظّة بالحياة؟ أين هي الدولة؟ أين هو القانون؟ وأين هو الحد الأدنى من الأخلاق والمسؤولية؟ هذا الصمت الرسمي المريب لا يمكن تفسيره إلا على أنه حماية مباشرة للمجرمين، وتواطؤ فاضح مع القتلة.
في الذكرى الخامسة، جئنا نقول، لن نقبل بالصمت، لن نخضع لسلطة رديفة ولن نقبل بخنق القضاة الأحرار. لن ننسى، ولن نسامح. العدالة حقّ، لا منّة من أحد، ولن تهدأ بيروت حتّى إسقاط القناع عن وجوه القتلة والإفراج عن الحقيقة المعتقلة... والسلام.
رئيس دائرة الإعلام الداخلي وعضو المجلس المركزي في حزب "القوات اللبنانية"