قبل يوم واحد من الذكرى الثالثة عشرة بعد المئة لميلاد الشاعر سعيد عقل (4 تموز 1912 - 28 ت2 2014)، غابت حارسة إرثه والمؤتمنة على تراثه الفكريّ والشعريّ، السيّدة ماري - روز أميدي، التي رافقته زهاء 40 سنة كانت فيها الأمينة على كتاباته ومكتبته وأسراره، ورفيقة يوميّاته في شيخوخته، وحافظة نتاجه الأدبيّ والشعريّ والشخصيّ بعد غيابه.
"واجب ع كلّ مقاتل لبناني يمسح بارودتو بتراب لبنان كأن مَسَحا ع جبين الله"، تلك كانت العبارة - المفتاح التي نسجت بداية علاقة ماري - روز أميدي بسعيد عقل. سمِعَته صدفةً في مقابلة إذاعية عام 1975 يردّد تلك الكلمات، فشعرت أنّ "شاعر لبنان" يحاكي عنفوانها كامرأة لبنانيّة من أصول أرمنيّة.
قرّرت أن تتعرّف إلى سعيد عقل. طلبت موعدًا، حصلت عليه، فقصدته في مكتبه. لقاؤهما الأوّل بدأ باردًا، أتبعه عقل من خلف طاولة المكتب بموقف حاسم: "يا بنتي إذا بدِّك شغل أنا ما عندي شغل!". أجابته أنها تدرّس مادّة الرياضيّات في مدرسة كبرى، وأنها مكتفية وراضية بعملها، لكنّها "جايي عند سعيد عقل أعطي".
وكما لفتتها عبارته في الإذاعة، لفتته عبارتها في المكتب. نظر إليها متعجّبًا وقال: "اللي بيجو عند سعيد عقل بياخدو، إنتِ جايي تعطي؟". نبّهته إجابتها، كما تروي أميدي في مقابلة تلفزيونيّة مع الشاعر حبيب يونس، أنها تستحقّ منه استقبالًا أفضل، فنهض من وراء مكتبه وتوجّه نحوها طالبًا منها الجلوس، وقال لها: "في 3 يتامى بلبنان: الله والعقل ولبنان. صار لي 50 سنة عاملّن بيّ... تعي اعمليلن أم".
من يومها بدأ مشوار ماري - روز أميدي مع سعيد عقل، فغاصت في عالمه الشعريّ والفكريّ، وتدرّبت على العمل معه مستعينةً بخبرة مساعدتَين كانتا تعملان قبلها في مكتبه، وأتقنت لغته "اللبنانيي" التي تعلّمتها. لغة لم تفارقها حتى في ورقة نعيها، التي استُهلّت بمقتطف من "القداس الماروني" الذي وضعه عقل، جاء فيه:
"يا لْ عَرشك ع الجَلَد
ع السرمديي جْرَيْك
ما بْأَزَل نسأل هَيك؟
و تردّ فاتح دَيْك
نملك سوا الأبد".
ودوّن في النعي اسمها بـ "اللّغا اللبنانيي" أيضًا، وذُيِّل بختام قصيدة "دقّيت" التي لحّنها الرحبانيّان عاصي ومنصور وغنّتها فيروز: "إن فلّيت اترك عطر ب هالكون".
ماري - روز أميدي التي يعرفها ويقدّر دورها كلّ من عرف الشاعر الراحل سعيد عقل واقترب منه يومًا، يُحسب لها أنها حافظت على كرامة وصورة سعيد عقل العامّة في حياته الطويلة وشيخوخته المديدة، والاثنان لم يُسلما الروح قبل أن يُسلّما ما تركه الشاعر للمؤسّسة التي حضنته حيًّا وراحلًا، "جامعة سيدة اللويزة". فالشاعر الخالد خاض في المؤسسة مشوار تعليم وصداقة طويل، دفعه لائتمانها على مؤلّفاته ومخطوطاته التي حُفظت وحُوّلت إلى نسخة رقميّة متاحة لكلّ طالب علم واضطلاع في مسيرة شاعرنا اللبناني الكبير. والجامعة التي احتضنت عقل في يوم وداعه الكبير عام 2014، مستمرّة في إحياء ذكراه، وآخرها قبل أشهر خلال احتفال لمناسبة مرور عشر سنوات على انتقال اسمه إلى سفر الخلود.
الخميس أتمّت ماري - روز أميدي "الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان" ورحلت لتلتقي من جديد بـ "المعلّم". فوجبت كلمة شكر لاحتضانها كبيرًا من لبنان ورعاية إرث من كلمات وقصائد وأفكار، في بلد من النادر أن يجد مبدعوه من يحفظ نتاجهم بعد رحيلهم كي يبقى متاحًا للأجيال المقبلة.