لم يتفاجأ متابعو الحرب الروسية - الأوكرانية عندما أقرّ الرئيس ترامب بأنه لم يُحقّق أيّ تقدّم على الإطلاق مع الرئيس بوتين في شأن إنهاء غزو الأخير لأوكرانيا خلال مكالمة هاتفيّة بينهما الخميس كانت السادسة لهما منذ تولية ترامب رئيسًا، إذ إن الكرملين كان قد سبقه بإعلان أن بوتين أكد لترامب أنه متمسّك بتحقيق أهداف حربه على أوكرانيا التي تقضي عمليًا باستسلام الأخيرة وجعلها شبه دولة غير قادرة على الدفاع عمّا سيتبقّى من أراضٍ لها وفق تصوّرات الكرملين.
يحاول بوتين استغلال رغبة ترامب في إنهاء الحرب في شرق أوروبا للتركيز على الغريم الاستراتيجي الأوّل لأميركا، الصين، عبر جرّه إلى مفاوضات لامتناهية تقيه شرّ "العمّ سام" من دون تقديم أي تنازلات جدّية. وقد نجح بذلك إلى حدّ كبير، إذ إن ترامب لم يفرض أي عقوبات جديدة على روسيا منذ عودته إلى البيت الأبيض، بل خفّف في بعض الحالات بعض القيود على موسكو، حسب صحيفة "نيويورك تايمز".
كما أوقفت واشنطن هذا الأسبوع شحنات أسلحة مهمّة إلى أوكرانيا، شملت صواريخ الدفاع الجوي "باتريوت" التي تحتاجها كييف بشدّة لحماية مواطنيها وبناها التحتية من هجمات الصواريخ الباليستية والمسيّرات الروسية الآخذة في الاشتداد، إلّا أنّ ترامب أوضح لاحقًا أنّ واشنطن لم تقرّر وقف الأسلحة عن كييف، لكنّها تدرس ما إذا كانت بحاجة إلى تلك الأسلحة لمخزونات البنتاغون.
جعل تراخي ترامب مع بوتين، الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، يكثّفان ضغوطهما على الكرملين من خلال تشديد العقوبات عليه وتعزيز دعمهما العسكري لأوكرانيا، ما دفع بوتين إلى فتح جبهة مراوغة جديدة هذا الأسبوع من خلال اتصال هاتفي مع نظيره الفرنسي ماكرون استمرّ لأكثر من ساعتين، وطبعًا، لم ينتج عنه أيّ شيء يُذكر. ولكن، رغم محاولات الكرملين ترطيب الأجواء مع الأوروبّيين، من المستبعد أن تتراخى أوروبا وتسمح له بالهيمنة على أوكرانيا، إذ إن صمود الأخيرة مصلحة أوروبّية استراتيجية خالصة.
بالتوازي مع المسرحيات الدبلوماسية الروسية الطويلة، تعمل آلة البروباغاندا التابعة للكرملين على تحريف الحقائق الميدانية وتضخيم حجم التقدّم البرّي الذي يحقّقه الجيش الروسي والتقليل من حجم الخسائر البشرية الفادحة التي يتكبّدها الأخير، بحيث من المرجّح أن يصل الجيش الروسي إلى عتبة مليون قتيل وجريح هذا الصيف، حسب "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، الذي كشف أنه قُتل حتى الآن حوالى 250 ألف جندي روسي مقابل مقتل بين 60 و 100 ألف جندي أوكراني، لافتًا إلى أنه "لم تقترب أي حرب سوفياتية أو روسية منذ الحرب العالمية الثانية من حرب أوكرانيا من حيث معدّل الوفيات".
مقابل تلك الخسائر البشرية الفادحة، لم يتمكّن الجيش الروسي من السيطرة سوى على واحد في المئة فقط من الأراضي الأوكرانية منذ كانون الثاني 2024، وفق المركز، بينما أفاد "معهد دراسة الحرب" أنه من غير المرجّح أن تحقّق روسيا اختراقات على المستوى العملياتي في المستقبل القريب، بل من المتوقع أن تظلّ المكاسب الروسية المستقبلية تدريجية وبطيئة ومكلفة جدًا، نظرًا إلى أن القوات الروسية لم تستعد بعد القدرة على المناورة العملياتية في ساحة المعركة التي أصبحت مكشوفة.
للتخفيف من الخسائر البشرية، استعان بوتين بجنود كوريين شماليين للقتال ضدّ أوكرانيا، إلّا أنه بعدما كان الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون قد بكى سابقًا أمام مواطنيه بسبب الانكماش الديموغرافي الذي تعانيه بلاده، أطلّ هذا الأسبوع وبكى مرّة جديدة علنًا على جنوده الذين قتلوا أثناء قتالهم القوات الأوكرانية.
في سياق متصل، يواجه الاقتصاد الروسي من جرّاء الحرب والعقوبات الغربية والإنفاق العسكري المتصاعد، نقصًا حادًا في اليد العاملة وتضخمًا وتباطؤًا حديثًا في النموّ الاقتصادي، حسب دراسة أخرى لـ "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، الذي أشار إلى اختناقات رئيسية محتملة في المستقبل قد تُشكّل تهديدات كبيرة لاستراتيجية التكيّف الروسية، مثل عدم اليقين في شأن عائدات النفط، وتراجع الحساب الجاري، والاعتماد الاقتصادي المفرط على الصين، واحتمال حدوث أزمة ائتمان.
فضلًا عن مقاومتها الهجمات الروسية البرّية بشراسة قلّ نظيرها، تمكّنت أوكرانيا بالتعاون مع مختلف أجهزة الاستخبارات الغربية من جعل استخباراتها خطرًا حقيقيًّا على الكرملين، إذ بعد عملية "شبكة العنكبوت" الباهرة التي استطاعت من خلالها كييف تدمير قاذفات استراتيجية راسية في العمق الروسي، اغتالت هذا الأسبوع نائب قائد البحرية الروسية في منطقة كورسك الروسية الحدودية التي احتلّتها لأشهر، كما تواصل استهداف البنى التحتية العسكرية في العمق الروسي بدقة عالية.
بناء على ذلك، لا تزال أوكرانيا في قلب المعركة وبعيدة كلّ البُعد من الاستسلام، إلّا أنها لا تزال بلا شك تحتاج إلى الدعم الغربي، خصوصًا الأميركي، للحفاظ على وضعيّتها الحالية وتحسينها، فيما يراهن بوتين على قدرته على مواصلة حرب الاستنزاف التي أوقع نفسه فيها حتى وقف المساعدات الغربية لكييف واستسلام الأخيرة، لكن الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي تتلقاها روسيا يوميًا على أكثر من صعيد تشير إلى أنّ هناك احتمالًا جدّيًّا أن ينكسر بوتين قبل أن تنكسر أوكرانيا.