بشارة جرجس

الفرصة المتاحة والمسؤولية المطلوبة

يسابق المسؤولون اللبنانيون الزمن لصياغة ردّ موحّد على الورقة الأميركية التي قدّمها الموفد الأميركي توم برّاك بشأن سلاح حزب الله. جاءت هذه الورقة كخارطة طريق تطالب بتسليم حزب الله سلاحه بالكامل بحلول نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، مقابل وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية وانسحاب قواتها من جنوب لبنان. اللجنة الرئاسية اللبنانية المكوّنة من ممثّلين عن الرؤساء الثلاثة، تولّت دراسة الورقة وتنسيق الرد، وعقدت اجتماعات مكثفة في الأيام الأخيرة لوضع اللمسات الأخيرة. ورغم أن المهلة للردّ انقضت مطلع الشهر، يُتوقع أن يصل برّاك إلى بيروت يوم الإثنين في زيارة تمتد ثلاثة أيام للحصول على الرد النهائي، وسط أنباء عن طلب لبناني لتمديد المهلة أيّامًا إضافية بغية استكمال آلية الاتفاق وضماناته.

تتضمّن الورقة الأميركية بنوداً حساسة تتجاوز مسألة سلاح حزب الله إلى قضايا سيادية وإصلاحية أشمل. فهي تدعو إلى نزع سلاح كل الميليشيات في لبنان دون استثناء، وترسم خطة على مراحل تبدأ بتسليم أسلحة حزب الله في كل الأراضي اللبنانية تدريجياً مقابل خطوات متزامنة أبرزها انسحاب إسرائيل من النقاط التي احتلّتها في الجنوب خلال حرب العام الماضي. وتشمل الخارطة أيضاً ترسيم الحدود البرية مع سوريا وتطبيق إصلاحات مالية واقتصادية طال انتظارها. ويحرص الطرح الأميركي على التأكيد أن اكتمال نزع السلاح قبل نهاية 2025 شرط أساسي لإعادة إعمار المناطق المدمّرة ودعم واشنطن والمجتمع الدولي للبنان، إذ سبق وأعلنت الولايات المتحدة والسعودية أنهما لن يساهما في إعمار ما تهدّم في لبنان قبل ضمان حصرية السلاح بيد الدولة. وقد شدّد برّاك أن على اللبنانيين اقتناص هذه الفرصة التاريخية التي "قد لا تتكرر" في تلميح إلى أن البدائل قد تكون أكثر صعوبة على لبنان. هذه الرسائل الأميركية الحازمة وضعت القيادة اللبنانية أمام اختبار مفصلي بين قبول خارطة الطريق الأميركية بشروطها، أو مواجهة المجهول فيما لو فشلت الاستجابة لها.

لم تأتِ الضغوط الأميركية من فراغ، بل تزامنت مع تحولات إقليمية كبرى أضعفت موقع حزب الله ومحور حلفائه. فبعد اندلاع حرب شرسة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية في أكتوبر 2023 على خلفية الحرب في غزة، وجد حزب الله نفسه في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. تلك المواجهة التي توسّعت إلى حرب شاملة انتهت بوقف لإطلاق النار في نوفمبر 2024، كبّدت الحزب خسائر فادحة في ترسانته العسكرية وقيادييه. أجزاء كبيرة من مخازن الصواريخ والبنى التحتية التابعة له في الجنوب دمّرتها الغارات الإسرائيلية خلال الحرب، واضطر الحزب للمرة الأولى إلى تسليم بعض مواقعه وأسلحته للجيش اللبناني بموجب اتفاق وقف النار الذي رعته واشنطن وفرنسا. كما فقد الحزب خطوط إمداد أساسية مع تغيّر المعادلات في سوريا بعد خروج حليفه بشار الأسد من السلطة في دمشق – تطور غير مسبوق قطع شرياناً لوجستياً حيوياً عن الحزب. كل ذلك جعل مسألة نزع سلاح حزب الله مطروحاً على الطاولة بشكل جدي للمرة الأولى منذ عقود، بعد أن كانت من المحرّمات السياسية قبل سنوات قليلة.

في المقابل، إسرائيل تسعى خلال وبعد حرب غزة ولبنان لضمان عدم تكرار سيناريو ٧ أكتوبر، وسيناريو حرب 2006 حين انتهت الحرب بقرار أممي (القرار 1701) يدعو لنزع سلاح حزب الله دون أن يُنفَّذ فعلياً.

الهواجس الإسرائيلية من إعادة تعاظم قوة الحزب ما زالت حاضرة بقوة، خاصة أنه أعاد بناء ترسانته بعد 2006، لذا تضغط تل أبيب عبر واشنطن لضمان تفكيك القدرات الصاروخية للحزب نهائياً هذه المرة. وتستفيد إسرائيل من تغيير موازين القوى الإقليمية ضد إيران وحلفائها منذ حرب غزة، فحزب الله الذي كان يُعتبر أبرز أذرع طهران أصبح محاصراً مالياً وعسكرياً وفقد جزءاً من هيبته داخلياً وإقليمياً. هذا الواقع المستجد يغري صناع القرار في واشنطن وتل أبيب بالدفع نحو حل جذري لسلاح الحزب مستغلين ضعفه وضائقته المالية.

يدرك حزب الله أنه أمام ضغط غير مسبوق، لكنه لم يُعلن رفضاً قاطعاً للمقترح الأميركي حتى الآن. بل على العكس، أوحت تسريبات من اللجنة الثلاثية بأن الحزب يتعاطى بـ”إيجابية” وحذر في آن واحد . فبحسب مصادر مطّلعة، شارك ممثلون غير رسميين عن الحزب في المداولات عبر قنوات الدولة، ولم يرفض الحزب التعاون مع لجنة الرد الرئاسية، إنما حرص على إبداء ملاحظات واعتراضات جوهرية. أهم شروط حزب الله تتعلق بالضمانات: يطالب الحزب بتعهدات صريحة تكفل عدم استهدافه أمنياً أو تصفية قادته بعد تسليم سلاحه، وضمان ألا تُقصف مناطق إعادة الإعمار والاستثمارات التي ستتم بعد الحرب. هذه المخاوف تضاف إلى مطلب أساسي آخر هو البدء الفوري بإعادة إعمار ما دُمّر خلال الحرب الأخيرة قبل الشروع بتسليم الأسلحة الثقيلة. بكلام آخر، يريد الحزب ثمناً مسبقاً مقابل أي خطوة منه، إذ لا ثقة لديه بأن وعود الدعم الدولي ستُنفَّذ بعد تفكيك قدراته العسكرية.

على الصعيد العلني، حرص قادة الحزب على إظهار التصلّب الظاهري حفاظاً على صورته المقاوِمة. فقد أعلن الأمين العام الشيخ نعيم قاسم ليلة الأربعاء بلهجة حازمة رفض أي إملاءات خارجية أو تهديد بالقوة في موضوع "سلاح المقاومة". وأكد قاسم أن الحزب “لا يقبل أن يُساق إلى المذلّة أو أن تُسلَّم الأرض أو السلاح للعدو الإسرائيلي" معتبراً أن من حق لبنان واللبنانيين قول “لا” كبيرة للضغوط الأميركية والإسرائيلية. كما ذكّر قادة الحزب بأن إسرائيل لم تلتزم بالكامل بوقف النار، حيث وثّق الحزب أكثر من 3700 خرق إسرائيلي للقرار 1701 منذ الهدنة الأخيرة، بما فيها غارات جوية متجددة في الأسابيع الماضية أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى في الجنوب. في المقابل، يستخدم الحزب لهجة مرنة خلف الأبواب الموصدة عبر الدولة، فيقدّم نفسه كشريك في بناء دولة قوية شرط عدم المسّ بثوابته الأمنية. حتى أن نائباً بارزاً من كتلته (النائب علي فياض) صرّح بأن الحزب مستعد لمؤازرة الدولة في بسط سلطتها الكاملة على الأراضي اللبنانية والقيام بكل ما يلزم لتحقيق الاستقرار، لكنه استدرك بالتشديد على أن ذلك مرهون بانسحاب إسرائيل من كل شبر محتل ووقف اعتداءاتها المستمرة على السيادة اللبنانية.

هذا المزيج من المرونة المشروطة والتصلب الإعلامي يوحي بأن حزب الله يناور لكسب الوقت وتحسين شروطه. فهو لا يريد الظهور وكأنه يرضخ للإملاءات، وفي الوقت نفسه لا يرغب بإغلاق باب التفاوض الذي قد يجنّبه حرباً مدمرة جديدة. ويبدو الحزب منخرطاً في مساومة دقيقة: القبول بمبدأ تسليم جزء من سلاحه الثقيل للدولة على مراحل، مقابل ضمانات أمنية وسياسية تحول دون تكرار سيناريو اجتثاثه أو تهميشه بعد نزع مخالبه. فهواجس العزلة السياسية وانتزاع النفوذ بعد فقدان القوة العسكرية تطغى على تفكير قيادة الحزب، لا سيما مع تصاعد أصوات في الداخل تدعو لتعديل قانون الانتخابات بما يُضعف حضور الحزب برلمانياً في مرحلة ما بعد السلاح. لذا يمكن فهم إصرار الحزب على ترتيبات تضمن بقاءه لاعباً سياسياً يُنصَت له، لا منظمة مستضعفة قابلة للإقصاء. إنه تجاوب مشروط بحزمة مطالب وضمانات، فهل يقبل الأميركيون والإسرائيليون بمنطق الضمانات المتبادلة، أم أنهم يعتبرونه محاولة للتملص وشراء الوقت؟ الأيام المقبلة ستكشف حقيقة نوايا الطرفين.

في العلن، يظهر الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام متوافقين مع روحية الورقة الأميركية، لكن بخطاب دبلوماسي يوازن بين مبدأ سيادة الدولة وبين عدم استفزاز حزب الله مباشرةً. أعلن الرئيس عون بوضوح خلال استقباله وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي تمسّكه ببقاء اليونيفيل في الجنوب والتزام لبنان الصارم بالقرار 1701. بل ذهب أبعد حين أكّد أن الجيش اللبناني يرفع عديده في منطقة جنوب الليطاني إلى 10 آلاف جندي، وأنه "لن تكون هناك أي قوة مسلحة في الجنوب غير الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية إلى جانب اليونيفيل" هذا التعهّد يمثل عملياً قبولاً بفكرة حصرية السلاح بيد الشرعية أقله جنوباً، وتكريساً لمنطق القرار 1701 الذي يمنع أي تواجد عسكري لحزب الله جنوب الليطاني. كما حرص عون على طمأنة المجتمع الدولي بأن لبنان ماضٍ في تكريس معادلة “جيش واحد وشعب واحد وسلاح واحد” على كامل أراضيه، وإن كان شدّد بالمقابل أمام البريطانيين على أن الخروقات الإسرائيلية المتواصلة تجعل مهمة الدولة في احتكار السلاح أكثر صعوبة. بهذا الكلام يلمّح الرئيس إلى أن سلوك إسرائيل يحرج السلطة اللبنانية أمام حزب الله وشعبه، إذ كيف يُطلب نزع سلاح "المقاومة" فيما العدو مستمر بالخروقات واستباحة الأجواء والحدود؟ إنها رسالة مزدوجة: بأن الدولة ماضية في فرض سلطتها، وللغرب بالضغط على إسرائيل لضبط النفس كي لا يُنسف مسار الحل — من منظور رئيس الجمهورية.

أما رئيس الحكومة نواف سلام فاتخذ نبرة تقنية في مقاربة مسألة السلاح. ففي كلمة له بالمجلس الاقتصادي الاجتماعي، ذكّر أن حكومته تستند إلى اتفاق الطائف والبيان الوزاري في سعيها لبسط سيطرة الدولة على جميع أراضيها. وأكد سلام أن الهدف الاستراتيجي هو "حصر السلاح في يد الدولة وحدها" كاشفاً عن خطوات عملية لتعزيز هيبة الدولة: تشديد ضبط الحدود والمرافئ لمنع التهريب، بما في ذلك إجراءات أمنية صارمة في مطار بيروت الدولي والطريق المؤدي إليه، إضافة إلى تفعيل التعاون مع الجانب السوري لضبط الحدود المشتركة وكبح التهريب وضمان عودة النازحين. هذه الإجراءات توحي بأن الحكومة تريد إظهار الجدية في ضبط كل المنافذ التي كانت طالما موضع اتهام بتزويد حزب الله بالسلاح. وهي بذلك تبعث برسالة إيجابية لواشنطن ودول الخليج أنها شريك موثوق في خطة إعادة بناء الدولة. كما أن كلام سلام عن تكثيف الضغوط الدبلوماسية لتنفيذ القرار 1701 وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الأخيرة، يصب في خانة التماهي مع المطالب الدولية بالتوازي مع مطالبة العالم بالإيفاء بالتزاماته تجاه لبنان .

رغم هذا التلاقي النظري مع الطرح الأميركي، يلاحظ المراقبون بطئاً وتردداً في الأداء الرسمي اللبناني يثير القلق. فحتى اللحظة، لم يخرج أي قرار أو موقف حاسم عن المؤسسات الدستورية بشأن الورقة الأميركية؛ إذ لم يُعرض الأمر على مجلس الوزراء رسمياً باعتبار أنه يُعالَج ضمن لجنة ثلاثية خاصة. ويبدو أن القيادة السياسية تراعي حساسية حزب الله لأبعد الحدود في هذه المرحلة، فتجنب إحراجه علناً. حتى صيغة الرد اللبناني النهائي لم تُعلن تفاصيلها، بل جرى رفعها مباشرة إلى قيادة الحزب خلف الكواليس لنيل موافقته قبل تسليمها للأميركيين. هذا الدور الذي ارتضته الدولة لنفسها، كوسيط ناقل بين واشنطن وحزب الله، يثير علامات استفهام حول مدى استقلالية القرار الرسمي. فقد علّقت مصادر سياسية بمرارة: "ماذا يعني أن يعود لبنان الرسمي في كل شاردة وواردة إلى حزب الله في موضوع الرد على ورقة برّاك؟ ألم يكن أجدى التفاوض مع الحزب مباشرةً بدل أن تكون الدولة مجرد ساعي بريد؟" هذا الانتقاد اللاذع يعكس خوفاً من عودة نفوذ حزب الله للتحكم بقرار الدولة كما في مراحل سابقة، وهو ما يناقض جوهر المبادرة القائمة على تقوية الدولة وإنهاء سلطة الميليشيا.

يُضاف إلى ذلك تضارب الإشارات الرسمية أحياناً. فبينما يبدي الرئيس سلام وحكومته حماساً ظاهرياً للخطة الأميركية، ينبري حليف حزب الله رئيس مجلس النواب نبيه بري لتأكيد أنه "لن يُمرّر شيء مخالف لإرادة المقاومة" وإن صحّت التسريبات، فإن برّي ينشط كقناة اتصال خلفية مع قيادة الحزب لتنسيق الردود، ما يعني فعلياً أن حزب الله يملك حق الفيتو على أي التزامات قد تقدّمها الدولة في المفاوضات. هذا الواقع دفع مصادر دبلوماسية للتحذير من أن الوقت ليس لصالح لبنان إن استمر التلكؤ الرسمي، فواشنطن وحلفاؤها لن ينتظروا طويلاً، وقد تأتي ردود فعلهم قاسية إذا اعتبروا أن بيروت تماطل أو عاجزة عن اتخاذ قرار سيادي. ظهر بعض من هذه الضغوط في زيارة الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان مؤخراً، حيث نقل رسالة صارمة بوجوب التزام الورقة الأميركية وإلا فإن “الآتي أسوأ”. كذلك اجتمع سفراء اللجنة الخماسية (الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر) في بيروت لمواكبة التطورات، في خطوة تعكس جدية المجتمع الدولي واستعداده لـتنسيق خطوات دعم أو عقوبات وفقاً لما سينتهي إليه الرد اللبناني. بعبارة أخرى، لبنان تحت المجهر، فإن أظهر قادته عجزاً أو تردداً، قد يجد نفسه بمواجهة عزلة سياسية وعقوبات أو حتى أعمال عسكرية إسرائيلية كما تلمّح بعض الأوساط.

وبالفعل، نقلت مصادر دبلوماسية في بيروت مخاوف من تصعيد عسكري إسرائيلي إن فشلت الجهود السياسية. وتحدّثت المعلومات عن احتمال ضربة إسرائيلية تستهدف البنية التحتية العسكرية لحزب الله شمال الليطاني (في منطقتي البقاع وبعلبك-الهرمل) بغية فرض وقائع جديدة على الأرض. هذا السيناريو يضع مسؤولية كبرى على عاتق الرئيس عون ورئيس الحكومة سلام للإسراع في حسم موقف واضح ينزع فتيل التفجير. فتاريخ لبنان علّمنا أن الفراغ في القرار يجلب التدخلات الخارجية بأبشع صورها. وإذا كان الرهان الرسمي حتى الآن على كسب الوقت بمراعاة جميع الأطراف، فإن الوقت نفسه يكاد ينفد، وقد ينقلب عامل المماطلة إلى عبء كارثي على البلد. لقد أحسن الرئيس عون في إطلاق تصريح مبدئي حول حصرية السلاح، لكنه مطالب اليوم مع رئيس الحكومة بخطوات تنفيذية جريئة تضع الجميع أمام مسؤولياتهم: المجتمع الدولي لتحصين لبنان وضمان أمنه، وحزب الله للانخراط بجدية في مسار تسليم منظم للسلاح ضمن ضمانات متبادلة. ودون ذلك، قد يجد الرؤساء أنفسهم متّهمين بالتقصير في لحظة مصيرية، وهو إرث لن يرحمهم التاريخ ولا اللبنانيين عليه.

السيناريو الإيجابي (الانفراج): ينجح لبنان في التوصل إلى صيغة تفاهم معقولة لتنفيذ خارطة الطريق الأميركية بموافقة جميع المكونات. يقبل حزب الله تسليم ترسانته تدريجياً للجيش اللبناني تحت إشراف أممي، مقابل انسحاب إسرائيل من نقاط الحدود المحتلة وتنفيذ وقف نار دائم. يتم إنشاء آلية بضمانة دولية (أمم متحدة وربما قوات دولية) لمراقبة تنفيذ الاتفاق بما فيها التحقق من تفكيك المنصات الصاروخية مقابل التزام إسرائيل بوقف الغارات وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين لديها. في هذا السيناريو، يحصد لبنان مكاسب مهمة: تستعيد الدولة هيبتها وسيادتها على كامل أراضيها، ويُعاد بسط سلطة القانون دون سلاح منافس. تنفرج علاقات لبنان الدولية ويرفع المجتمع الدولي قيوده، فتتدفق المساعدات المالية للاستقرار وإعادة الإعمار التي حُرمت منها البلاد طويلاً . كما تنطلق ورشة إصلاحات داخلية بتشجيع ودعم دوليَّين، ما يعيد بناء الثقة في الاقتصاد اللبناني ويخفف من حدة الأزمة المعيشية الخانقة. داخلياً، يتحول حزب الله إلى حزب سياسي صرف يشارك في العملية الديمقراطية بلا سلاح، وربما يُدمج العديد من عناصره في الدفاع المدني وشرطة البلديات في مناطقهم بضمانات معينة. هذا الانتقال قد يجنب الطائفة الشيعية أي شعور بالاستهداف، إذ سيتم تقديمه كإنجاز وطني يجنب البلد ويلات الحرب ويضمن حماية الجنوب عبر الدولة لا الميليشيا. وعلى المدى الأبعد، قد تكون هذه الخطوة بداية نهاية حقبة السلاح خارج الشرعية في لبنان.

السيناريو السلبي (التصعيد): يفشل المسعى الدبلوماسي نتيجة تعنّت في المواقف وعدم الموقف الحاسم للسلطة اللبنانية، ويرفض حزب الله في تقديم تنازلات جوهرية بشأن سلاحه. في هذه الحالة، يشتد الضغط الخارجي على لبنان: قد تعمد واشنطن إلى عزل الحكومة اللبنانية دبلوماسياً وفرض عقوبات إضافية على شخصيات تعتبرها معرقلة، فيما تلجأ إسرائيل إلى تصعيد عسكري أحادي بحجة الدفاع عن أمنها. ضربة استباقية إسرائيلية ضد مواقع حزب الله محدودة أو واسعة، ستؤدي حتماً إلى دمار قد يفوق ما حصل العام الماضي، نظراً لضعف قدرات الحزب الدفاعية حالياً وتوتر الوضع الإقليمي. حتى لو لم يقع التصعيد فوراً، فإن بقاء سلاح الحزب دون حل سيعني استمرار حالة اللاسلم واللاحرب التي تستنزف الاقتصاد وتمنع أي استقرار. لن يتجرأ المستثمرون والداعمون الدوليون على ضخ الأموال في بلد مهدد بالانفجار الأمني في أية لحظة. وسيبقى لبنان رهينة لعبة عض الأصابع بين حزب الله وعجز الدولة، ما يبدد آخر الآمال بانتعاش اقتصادي أو إصلاح سياسي. داخلياً ستتفاقم الانقسامات: الفريق المؤيد للورقة الأميركية سيتهم حزب الله بإضاعة “فرصة ذهبية” لإنقاذ لبنان، فيما سيعتبر أنصار الحزب أن الدولة تخضع لإملاءات الخارج وتحميلها مسؤولية التدهور. هذا الاحتقان قد ينذر بـتوترات أهلية بين بيئات مختلفة إذا انزلقت الأمور أمنياً، ولا يُستبعد أيضاً، في ظل انسداد الأفق، عودة الشلل السياسي الكامل: تعطيل حكومي وتصريف الأعمال الحالية، وادارة أزمة، ما يدخل البلد في فراغ سياسي مجدداً. باختصار، السيناريو الأسود يعني سقوط لبنان مجدداً في دوامة حرب أو انهيار شامل لن يبقى معه لا اقتصاد ولا مؤسسات، مع مخاطر تغيرات ديمغرافية بهجرة من تبقّى من شبابه.

يقف لبنان اليوم أمام منعطف تاريخي نادر تتقاطع فيه إرادة دولية لإنهاء حقبة السلاح الخارج عن الدولة، مع حاجة محلية ملحّة لإعادة بناء دولة قابلة للحياة. إنها فرصة إنقاذ قد لا تتكرر، هكذا تراها العواصم الصديقة، ولكن في المقابل هناك من يراها البعض في الداخل بمخاطرة كبرى. وبين الفرصة والمخاطرة، يبقى العامل الحاسم هو كيفية أداء القيادات اللبنانية لمسؤولياتها في هذه الأيام الحاسمة. على الرئيس عون ورئيس الحكومة سلام وباقي أركان الدولة أن يثبتوا أنهم على قدر الثقة التي وُضعت فيهم داخلياً وخارجياً للمضي قدماً في استعادة قرار. لقد قدّم لهم المجتمع الدولي مظلّة دعم، وحتى حزب الله وإن على مضض أبدى استعداداً للنقاش، مما يعني أن هوامش الفعل متاحة أكثر من أي وقت مضى. لم يعد جائزاً الاختباء وراء حجة الانقسام الداخلي لتبرير التقاعس، فالإجماع خلف الجيش والسلم الأهلي يمكن بناؤه إن صَدَقت النيات وتحرّك المسؤولون بحكمة وشجاعة. في المقابل، أي تراخٍ أو تلكؤ رسمي إضافي قد يكلف لبنان غالياً. فالتهديدات الإسرائيلية بضربة وقائية، والتحذير السعودي بأن “الآتِي أسوأ” إذا فشل الحل، ليست رسائل عابرة. وعلى من في موقع الحكم أن يدركوا أن قرار الدولة لا يُستعاد بالتمني ولا بالمزايدات الإعلامية، بل بقرارات جريئة وإجراءات ملموسة على الأرض، ولو تطلب الأمر مواجهة صعبة ومؤلمة في البداية.

يحمل اللبنانيون أنفاسهم ترقباً: هل نشهد ولادة عقد لبناني جديد تُطوى فيه صفحة ازدواجية السلاح وتعود فيه الدولة سيّدة قرارها؟ أم يفلت زمام المبادرة وننحدر إلى فصل قاتم من التأزّم وربما الصدام؟ الكرة الآن في ملعب القادة اللبنانيين أنفسهم. سوف يُحاسَب الجميع على خياراتهم في هذه اللحظة المصيرية؛ فإن أحسنوا اقتناص الفرصة وتأمين التفاهمات الضامنة، كتبوا للبنان صفحة جديدة من الوحدة والسيادة تُداوي جراح الماضي. أما إن أضاعوا البوصلة، فلا لوم على الخارج حينها إن قسا ولا على القدر إن حمّل البلد أثماناً أكبر. لبنان بين الإنقاذ والانفجار، والعالم ينتظر الجواب في الأيام القليلة المقبلة، فهل من مجيب